بث تجريبي

أمسية البنفسج

استقرّت عيناي عند اسمها في نهاية الرسالة، وازداد إعجابي القديم بها حين وجدتُ الشيخة د.سعاد الصباح تدعوني إلى المساهمة في الكتابة عن الدكتور عبد الحسين شعبان، لتكريمه من قبل مؤسستها في برنامجها المُعَدّ لتكريم كبار المثقفين العرب في حياتهم، كما فعلت مع نزار قباني وثروت عكاشة وغسان تويني وغيرهم من الأدباء والمفكّرين.

وجدتُ في اختياري لهذه المهمة تقديراً، وقررتُ أن أكتب. صحيح أني لم أتعرّف شخصياً على د.شعبان، إلّا في السنوات الأخيرة، لكن هل تُقاس المعرفة بالزمن؟ هناك من لا تحرك سنوات معهم أقلامَنا، بينما تُشرق شموس أرواحنا لمن يلهموننا في وهلة وحي أرواحهم المتوهجة، فتجرّنا بعض تفاصيلهم إلى الدَّرْك، فيما يُحلّق بنا بعضها إلى أقصى «درب التبّانة».. وأحسبُ الدكتور عبد الحسين من هؤلاء.

مذ خطَونا -زوجي وأنا- داخل تلك الشقة الدافئة في منطقة الجناح في بيروت، تلبيةً لدعوة كريمة من الدكتور شعبان، تذكرت مقولة مارغريت ثاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا: «أفكارك تشكّل واقعك ومستقبلك وقدرك»، أو بحسب نظرية كتاب «السر»، نحن نشكّل ما يحيط بنا بما تبثّه عقولنا. وعلى الرغم من أنّ الدكتور عبد الحسين استثنائي في نواحٍ كثيرة، ولكنه ليس استثناءً لتلك القاعدة، فعالمه أيضاً يشبهه.. على الأقل بيته.

لوحات متنوعة تملأ الجدران، بعضها لرسامين معروفين، وبعضها لأصدقاء أهدوه رسومهم تعبيراً عن المحبة أو العرفان، كالسيدة جواد التي تعيش اليوم في إسبانيا، والتي رسمت له لوحة تجريدية جميلة، ولوحة عبد الإله لعيبي، باب الذهب لمرقد الإمام علي.

«هناك تحت الباب نفسه مرقد جدي»، أخبرني حين وجدني أتأمل هذا الباب بدهشة وإعجاب. «فقد كان لعشيرة آل شعبان رئاسة الخدمة في حضرة الإمام علي (رضي الله عنه) منذ قرون. وعائلتي يعود أصلها إلى (جبل النبي شعيب) في اليمن».

من اليمن! لا عجب إذن أن نلتقي. فقد آمنتُ منذ زمن بأنّ قدري يختبئ بين حروفها. تأملتُ رسم لوحة شجرة العائلة بإعجاب. عشرات الأجيال تعود إلى عدة قرون، لكنها جميعاً أسماء ذكور.

مهلاً، ما هذه الإضافة باللون الأزرق في أعلى يسار الشجرة؟ يد رسمت فرعاً إضافياً انبثق من اسم عبد الحسين، ليتفرع إلى اتجاهين، كُتب على أحدهما سنا، وعلى الآخر سوسن، وفهمت أنّ ابنتيه أضافتا اسميهما باليد. هذا إنصاف، لماذا تنقطع شجرتنا ويقف امتدادنا إذا لم نُنجب ذكوراً؟ سلالة سيد الخلق وآل البيت جميعاً، أليسوا من فاطمة رضي الله عنها ابنة الرسول الذي لم يعش له أبناء ذكور؟

جُلتُ بالبصر بين ضيوفه، فكرت أنهم يشبهونه أيضاً. رجال ونساء من مختلف الأعمار والمشارب، من دول متعددة يجمعهم هواه الأساسي، الشعر والأدب والفن في جوٍّ من الأُلفة والحميمية، أتابع مضيفنا يحتفي بالجميع، بتواضع فيه رقيّ، قلما يتكلم، يمنحه صمته هالة إضافية من غموض، كذلك مسحة الحزن المتواري في عينيه.. هل هي سلسلة المعارك والعواصف التي خاضتها سفينته مستكشفةً طريقها الأسلم بين الصخور إلى «مُبتغى» وعاه مبكراً؟.. أم أنّه بعض إرثه العراقي منذ جلجامش ومحاولة الخلود، أو ربما هو «وعي المثقف الشقي» كما أسماه في أحد كتبه؟ ذاك الذي «يشقى في النعيم بعقله»؟

الإعلامي اللبناني الشاب في الكرسي المجاور يقرأ في عينيَّ فضولي. «أعرف د.شعبان منذ أكثر من عقدين». قال بإعجاب: «إنّ هذا الرجل السهل الممتنع بئر عميقة لأسراره وأسرار معارفه الكثر في كل مكان. ساعدني كثيراً، فهو جاهز دوماً لمدّ يد العون، وخصوصاً للشباب، لأنه يؤمن بهم. رجل يتدفق بالمحبة، ويفتح ذراعيه دائماً للآخر، حتى نال وسام الصداقة العربية – الكردية».

أعجبتني عبارة: «ويفتح ذراعيه دائماً للآخر». تذكّرتُ قول مولانا جلال الدين الرومي: «أولئك الذين يملكون قلوباً مليئة بالمحبّة.. تكون أياديهم دائماً ممدودة»..

ألمحُ في الرُّكن مكتبة ضخمة وغنية أهداها كاملة إلى الجامعة، جامعة اللّاعنف (أونور) AUNOHR التي ينوب رئاستها. فكرت بإعجاب في الكمّ الذي قرأه والكمِّ الذي كتبه، فهو أكاديميّ وباحث ومفكّر وكاتب، ألَّف عشرات الكتب في القانون والسياسة والفلسفة والتاريخ والاقتصاد والفكر الديني، في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد، وانشغل منذ وقت مبكّر بقضايا المجتمع المدنيّ والأديان، والفهم المتجدّد لقضايا حقوق الإنسان.

بالنسبة إليَّ، فأنا أحترم د.عبد الحسين. يُثير إعجابي تنوعُ ثقافته ومشاربه. خليط مثير للاهتمام، ابن النجف الذي نشأ على صوت القرآن في بيت طفولته، ممّا شكَّل أحد الروافد الروحية الأساسية في تكوينه وفي منظومة قيمه، ثم نما معتاداً على التنوع الفكريّ في بيت أسرته التقدمية المفتوح للضيوف على اختلافاتهم، ثم تبنّى فكراً متسامحاً لانتماء يساري، بناه بألوان قوس قزح.

 فتح عقله المجبول بالحضارات ليتقبل النور الإلهي.. ويمسح الغبار الذي رُمي على الأديان، فهو باعتراف النقاد لا «يعصرن» القرآن، بل يأخذ نفسَهُ بما فيها من حداثة إليه، وكذلك درس الإنجيل، فوصف النصارى بـ»ملح العرب». تحدث عن النصرانية وتسامحها وتاريخها، و«كأنّ مسيحياً كان واقفاً وراءه ليعرف عدله»، على حدّ تعبير النقاد وفي مقدّمتهم المطران جورج خضر. ثم درس البوذيّة وتعاليمها. فهمه العميق هذا، صبّه لاحقاً في كتب كـ»الإسلام وحقوق الإنسان: المشترك الإنساني للثقافات والحضارات المختلفة»، وكتاب «دين العقل وفقه الواقع»، وكتاب «فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي».

كانت السهرة واحة حرية ومحبة، توالت الأصوات تُدلي فيها بما تحبه في عالم الشعر، شعر قديم أو حديث أو بالبدوية. فكّرت بمتعة كم افتقدتُ هذه الأوقات في قطاري السريع بين محطات لا تشبهني، الليلة أنا في محيطي.

شدَّني فجأة إلقاءُ شعبان -استجابةً لطلب بعض الحاضرين- بعض أبيات الجواهري بإحساس جليٍّ وصوت رخيم مميّز. طبيعي أن يتلو شعبان شعر ابن مدينته اليساري، الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، بعد أن قضى ردحاً من عمره يوثق بدقة وعلمية أجمل قصائد الجواهري، التي تجسد برأيه «جدل الشعر والحياة»، وجمعها في كتاب أسماه «جواهر الجواهري» بلغة بسيطة وسلسة لا يستعرض فيها ثقافته الواسعة وعلمه الغزير، وليس الجواهري فحسب، بل اهتم بتوثيق عطاءات نخبة من المبدعين، كمظفر النواب وأمين الريحاني وعبدالرحمن النعيمي وعامر عبدالله وسعد صالح وغيرهم.

عرفتُ من سيرته الحافلة التي سمّتها الحركة الثقافية في إنطلياس يوم كرّمته كأحد الأعلام الثقافية العربية الكبيرة (بيروت 2017) «سيرة تمرد»، أنه خبير في مجال حقوق الإنسان، واستشاري وعضو في عدد من المنظمات العربية والدولية، وفي هذه السيرة تلخيص لمسيرة د.شعبان وجزء من قصة حياته منذ أن تخرّج في كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة (جامعة بغداد)، ونال درجتي الماجستير، وحصل على درجة الدكتوراه في فلسفة العلوم القانونيّة من تشيكوسلوفاكيا.

تروي السيرة والمسيرة قصة مناضل من هذا الوطن، تمرّد على بيئته المتدينة، وآمن باليسار. حقوقي تمرّد على الخوف، وامتهن الدفاع عن حقوق الإنسان، تمرّد على التعصب، عروبي وقومي وإنساني تمرّد على التحيّز والتخلف والطائفية، وتمرد على العنصرية. يؤمن د.شعبان بعمل الفريق، لذلك نجده مساهماً في العديد من الكتب والمقالات المشتركة. ويؤمن أيضاً بأهمية التعريب والترجمة انطلاقاً من مبدأ تبادل الثقافات وتفاعلها، كما أن حضوره فعّال في الملتقيات الفكرية والمنتديات الثقافية والمؤتمرات الحقوقية العربية والدولية.

أقترب من الخزانة الزجاجية في الركن.. أتملى في شارات وأوسمة عالمية حازها في مسيرة نضاله، توقفت أمام جائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربيّ، اقتربت أدقق النظر في التفاصيل.. من خلفي سمعت صوت الشاعرة السورية اللطيفة التي ألقت قبل قليل بعض شعرها: «شعبان هو مناضل إنساني وقومي وعراقي مغرم بالعراق»، ألم تري تلك؟ وتتبعتُ اتجاه إشارة يدها إلى حيث نُقشت بعض أبيات شعر الجواهري بأناقة أعلى الأبواب الخشبية الداكنة:

أنا العِراقُ لساني قلبهُ ودمي

فراتُهُ وكياني منهُ أشطارُ

أضافت: عراقي دفعه العشق لكتابة كتب وأبحاث حول بلاده التي أسماها «بلاد الشمس» بروح وطنية وقّادة لا تساوم في الثوابت، وهو يقول: «مُوالٍ أو معارض، لا يهمّ. فالموقف المعارض لا يكون على حساب الوطني والثابت والاستراتيجي، الوطن هو القضية الأكبر والأهم».

يتنقّل للاهتمام بضيوفه حول مائدة فيها أيضاً من تنوعه وتسامحه، أطباق فلسطينية، وأخرى عراقية وسورية، ولبنانيّة. ألتقط رقاقة من طبق المسخن الفلسطيني، وأستمتع برائحة السُّماق، طبق فلسطيني على مائدة شعبان؟ بالتأكيد ليس مصادفة. فقد عُرف عن مضيفنا على الدوام أنه كان من بين المحامين التقدّميين، وأنه مساند لقضايا التحرر وكفاح الشعوب. وعُرف مدافعاً بشكل خاص عن القضية الفلسطينية، فكتب في مختلف شؤونها: القدس، الانتفاضة، الحرب على غزة، والعنصرية الصهيونيّة، حتى مُنح العضوية الفخرية لاتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين، ولأنّ عقله الشمولي متسامح ومرن، فقد ميّز بين اليهودي والصهيوني، وأشار إلى مساهمة يهود عراقيين تقدميين معادين للصهيونية في تاريخ الكفاح الوطني العراقي، تحت لواء الحزب الشيوعي العراقي آنذاك.

«لم تتناولي شيئاً»، عاتبني الدكتور بلطف. بالنسبة إليّ، كنتُ قد نسيتُ الطعام، بل والمكان كلّه. كنتُ في إحدى لحظات التجلّي. كأنَّ الرجل العراقي قد فتح لي الستارة فجأة «فرأيتُ». كنتُ أراقبه.. يجامل ضيوفه ويضحك، تلتمع عيناه لتعكِسا فيض انفعالاته. جليّ أنه قرّر أن لا يشيخ أبداً. الموت والحياة يكمنان في داخلنا، ففي بداية عقده الثامن مازال «شعبان» واحداً من أنشط مفكري الوطن العربي وألمعهم. يتابع بنفسه يوميّاً مجموعة هائلة من القضايا والنشاطات. يقضي وقتاً كثيراً في السفر بين بلدان العالم لحضور المؤتمرات والاجتماعات. إيمانه الحقيقي وشغفه بما يفعل وحماسته الهادرة لقضاياه الكبرى، سرّ نجاحه الكبير وشبابه الدائم.

أجل، استمتعتُ جداً بتلك الأمسية التي ذكّرتني بعنوان كتابه الذي أهداني إيّاه مؤخّراً: «رحلة البنفسج». صحيح لم يكن مظفر النواب الذي أضاء الكتاب على رومانسيته المشفرة حاضراً، ولا شعره، لكنها كانت أمسية بنفسجية الرقة.

 بعد أن غادرت، في هدوء ليل بيروت وظلام السيارة، بقي معي صوت قويّ النبرات ينضح بالكبرياء، وابتسامة مهذبة لا تغيب. وعينان تبثّان تأثيراً عجيباً.. تفيضان ذكاء.. وتغرقان حزناً. وجدتُني أدندن، ومازلت طربى بنغمات العود الذي زاد الأمسية جمالاً، بكلمات بيرم التونسي: «ليه يا بنفسج بتبهج وأنت زهر حزين؟».

- مساهمة الدكتورة ريم عبد الغني في كتاب جمر الحروف الذي صدر عن دار سعاد الصباح تكريمًا لدكتور عبد الحسين شعبان في يوم الوفاء 2024.

 

قد يهمك