لم تكن العلاقة بين مصر والحركة الكردية وليدة عصر جمال عبدالناصر ولكنها ضاربة في أعماق التاريخ فقد فرضت هذه العلاقة مجموعة من العوامل منها: الجوار الجغرافي بين القوميتين العربية والكردية ومن ثم وجود تاريخ مشترك بينهما فضلا على أنهما جاهدا من أجل الحصول على الحرية والاستقلال , فضلا عن أنهما يجمع بينهما المذهب الشافعي السني.
بزغت العلاقات بين مصر والأكراد منذ زمن الدولة الفاطمية , فقد برز اسم القائد الكردي أحمد بن الضحاك الذي تولى دورا بارزا في الجيش المصري في عهد الخليفة الفاطمي العزيز بالله ( ٩٧٥ -٩٩٦ م ) ، والذي يعود إليه الفضل في هزيمة الجيوش البيزنطية في الشام . إلى جانب هذا أبو الحسن سيف الدين علي بن السالار ( 1149 - ١١٥٣ م ) وزير الخليفة الظافر الفاطمي ( ١١٤٩ - ١١٥٤ م ) . حيث اضحى والياً على الإسكندرية ، وبنى مدرسة للشافعية في الإسكندرية رغم اختلاف المذهب الديني .
وصلت العلاقات ذروتها عندما شغل القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي منصب الوزير للخليفة الفاطمي العاضد واستطاع بحنكته إعادة مصر ثانية إلى المذهب السني وأسقط الخلافة الفاطمية في مصر, بل قاد مشروع وحدوي إسلامي جمع فيه العرب بالأكراد واستطاع من خلال عنصري الجيش الإسلامي هزيمة الصليبيين في معركة حطين 1187م , وعليه رسخ لأسرة كردية حكمت مصر والشام قرابة قرن من الزمان , ومن ثم تدفقت العناصر الكردية على مصر لتنصهر في البوتقة المصرية مكونة نتوءات داخل المدن المصرية والعديد من القرى التي ما زالت تسمى بأصل سكان هذه القرى مثل ( الكردي – ميت الأكراد بمحافظة الدقهلية ) كما ساعد الاجتياح المغولي لمنطقة كردستان على هجرة أعداد غفيرة من الأكراد إلى مصر , وشاركوا جيش مصر بفرقة عرفت باسم فرقة الشهروزرية التي قاتلت إلى جانب الجيش المصري في عين جالوت .
ورسخت النواحي الثقافية العلاقات بين الجانبين والذي بدا واضحا في العلاقات القوية بين الازهر الشريف ومدرسة السلطان حسين بن السلطان حسن التي بناها في عاصمته بإمارة ناميدى بادينان بكردستان في القرن السادس عشر الميلادي .
عاد الأكراد إلى الظهور في تاريخ مصر مرة أخرى في أعقاب الحملة الفرنسية على مصر 1798م عندما قام الشاب الكردي السوري أحد طلاب الأزهر الشريف سليمان الحلبي بقتل كليبر قائد الحملة الفرنسية بمصر ليثبت وحدة المصير بين شركاء الدين والوطن .
كما جمع العداء المشترك بين مصر والأكراد للدولة العثمانية في عهد محمد علي باشا وفرض عليهما التنسيق سويا من أجل محاربة السلطان خاصة في حروب الشام , حيث اتفق أمير إمارة سوران محمد باشا الراوندوزي مع والي مصر علي قدوم قوات الأخير إلى سورية والتوجه نحو أضنه في الأناضول ، بينما يتوجه الأمير محمد باشا الراوندوزي نحو ماردين وديار بكر سنة ١٨٣٢, وقد أدى هذا التحالف إلي قيام الدول الأوروبية وخاصة بريطانيا بمساعدة السلطان العثماني محمود الثاني من أجل الوقوف في وجه طموحات محمد علي وأمير سوران.
اعتمد محمد علي في حكم مصر علي بعض العناصر الكردية حجو بك الذي ساعدة في الإطاحة بالمماليك وسار خلفاء محمد علي على هذا النهج وابرز مثال علي ذلك كان المشير شاهين بن علي أغا الكردي الذي تولي نظارة الحربية في وزارة شريف باشا 1879م .
ولما كانت مصر حاضنة للثقافات المختلفة والعناصر الثورية من أجناس عدة فقد فر إليها بعض الثوار الاكراد وأصدروا صحيفة تحمل اسم كردستان التي أصدرها مقداد مدحت بدرخان سنة 1889م ومن بعده أخيه الأصغر حيث كانت المنبر الوحيد المعبر عن الحركة الكردية ، وبناء العلاقات النضالية مع القوى والحركات القومية العربية والأرمينية والتركية في سبيل الحقوق القومية والمساواة والعدل, إلى أن تم مصادرتها من قبل السلطات العثمانية بعد فترة من الزمن. كما أنشأت أول مطبعة كردية في مصر بواسطة فرج الله ذكي الكردي في العام ذاته .
وعندما اشتدت حركة المقاومة الكردية ضد الدولة العثمانية أسس العديد من الأكراد جمعية تحرير كردستان قبل الحرب العالمية الأولى وانضم إليها العناصر الثورية التي فضلت الإقامة في مصر وكذا الطلاب الأكراد الذين يدرسون في الأزهر الشريف ويذكر أنه كان هناك رواق للأكراد في الأزهر الشريف يمنحهم درجات الإجازة والعالمية وظل همزة وصل بين الطلاب والجامعات المصرية بعد ذلك حتى ألغيت الأروقة 1960 وحل محلها مجمع البحوث الإسلامية .
عاش الأكراد في مصر إلي جانب إخوانهم المصريين فقد وجدوا في البيئة المصرية مناخ جيد للإقامة بها , واضحوا جزء لا يتجزأ من الشعب المصري وساهموا بشكل لافت للنظر في الحياة التعليمية والثقافية المصرية في القرن العشرين وعلى سبيل المثال لا الحصر الشيخ محمد عبده والمفكر الكبير عباس محمود العقاد وأمير الشعراء أحمد شوقي والأديب أحمد تيمور باشا والقارئ الشيخ عبدالباسط عبدالصمد ,وفى مجال السينما والفن برزت شخصيات كردية مثل المصور السينمائي أحمد خورشيد والفنانة شيريهان والمخرج أحمد بدرخان وابنه علي بدرخان ، كما ظهر في مجال الفن التشكيلي أدهم ومحمد سيف الدين وانلي.
الأكراد وقيام ثورة يوليو 1952م
ذكر جمال عبدالناصر في كتاب فلسفة الثورة أنه منذ قيام الثورة حددت ثلاث دوائر أعدتها الثورة مناطق تعمل فيها لمحاربة الاستعمار وهى: الدائرة العربية والدائرة الإسلامية والدائرة الأفرأسيوية , كما رفعت الثورة شعار القضاء علي الاستعمار. وبدورها أيدت الحركة التحررية الكردية في كردستان العراق ، قيام الثورة المصرية وساندت برنامجها التحرري ضد الدول الاستعمارية والأحلاف العسكرية لأنها كانت ترى في الأنظمة الملكية العربية عائقاً أمام تحقيق طموحاتها وأهدافها ، عن أن الحركة الكردية واتفقت الحركة الكردية مع ثورة يوليو محاربة والأنظمة الرجعية .
وعليه أبدا الحزب الديمقراطي الكردي تأييده للثورة المصرية ، واستمر الحزب في موقفه المؤيد للثورة واتجاهاتها التحررية ، ورأى أن تقويض الأنظمة الملكية في المنطقة يمكن من نجاح الحركات التحررية من تحقيق أهدافها . واتفق الحزب الشيوعي الكردستاني مع نظيره الديمقراطي في تأييد لثورة يوليو، لأنه كان في الأساس ضد الأنظمة الملكية في المنطقة والمرتبطة بأحلاف عسكرية مع الدول الغربية ، وقد رفع الحزب في حينه شعار إسقاط العائلات المالكة ، فإنه اعتبر الثورة المصرية بمثابة التغيير الأول للأنظمة الملكية في المنطقة ، وأن ما حدث في مصر سيكون حتماً بداية التغيير في النظام الملكي في العراق والأنظمة العربية عموماً
في حين أجلت حكومة بغداد الاعتراف بالثورة المصرية علي اعتبار أنها أسقطت حكم العائلة العلوية في مصر المماثلة للعائلة الهاشمية في العراق ومنعت الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى من التنويه للثورة في مصر , ولم تعترف بالتغييرات التي حدثت في مصر إلا في منتصف 1954م بعد زيارة ولي العهد العراقي – عبدالإله - الذي ناقش مع عبدالناصر رفع مستوي التمثيل الدبلوماسي بين البلدين إلي مستوى السفارات .
حلف بغداد
في أعقاب نجاح الحزب الجمهوري الأمريكي في انتخابات 1953م واعتلاء ايزنهاور سدة الحكم تبني وزير خارجيته جون فوستر دالاس سياسة الأحلاف الدفاعية فقد زار دول منطقة الشرق الأوسط في عام 1953م من أجل حث دول المنطقة على إقامة تحالفات مع الولايات المتحدة بهدف صد التهديدات الشيوعية والحيلولة دون انتشار الشيوعية في الشرق الأوسط . فقد بدء بزيارة مصر في مايو 1953م التي أجلت النظر في الاشتراك في أي تحالفات إلا بعد جلاء القوات البريطانية عن مصر ومن ثم تبنت بقية الأقطار العربية هذا التوجه , لذا قامت الإدارة الأمريكية بحث دول المنطقة على التحالفات الثنائية ثم الانضمام إلي التحالفات الغربية , فعقدت تركيا والباكستان اتفاقية ابريل 1954م والتي أبدت حكومة بغداد عطفا على هذا التحالف وأعلنت أنها سوف تلتحق به عما قريب, في الوقت الذي تبنت فيه مصر عدم ارتباط أي عضو في الجامعة العربية بأي دولة من خارج دول الجامعة العربية, ولكن حكومة العراق اسرعت وعقدت تحالف مع تركيا في فبراير 1955 ثم انضمت إلية بريطانيا والباكستان وإيران في نفس العام, فما كان من مصر إلا أن هاجمت الحلف وحالت دون انضمام أي دولة من دول الجامعة العربية ووصفته بأنها عودة للاستعمار من النافذة بعد أن خرج من الباب .
شاركت الحركة الكردية مصر والدول العربية الأخرى ( سوريا و السعودية ) في مناهضة حلف بغداد لان بنوده نصت على التحالف المشترك بين دول الأعضاء في محاربة أي عصيان أو تمرد قد يحدث مستقبلا في هذه البلدان المتحالفة ، وكان المقصود بها الحركة التحررية الكردية ، ونشاطات الحزب الشيوعي وتوسع نفوذه في هذه البلدان, فحاولت دول الحلف عقد اتفاقيات ثنائية لمحاربة الحالات الطارئة فيها وأكدت بنود الحلف على أن تتبنى دولها سلامة وأمن منطقة الشرق الأوسط ، وفي حال تعرض أية دولة فيها لأعمال تخريبية ، سيُعد بمثابة نشاطات معادية تجاه جميع دول الأعضاء في الحلف ، وبالتالي فأنها ستتخذ كافة الإجراءات الممكنة للدفاع عن مصالحها.
استجابت الحركة الكردية في العراق وتركيا وإيران إلي الدعاية الناصرية المناوئة لحلف بغداد حيث أمتد إرسال إذاعة صوت العرب في المنطقة وكذا إذاعة صوت العراق الحر الموجهة من قبل الحكومة المصرية التي عملت على تأجيج مشاعر الأكراد ضد الحلف وعضوية العراق والتي وصفت حكومة بغداد بأنها تعمل لصالح الاستعمار ولا تعمل لصالح العراقيين والعرب والأكراد شركاء الوطن الواحد .كما قامت الحكومة المصرية من خلال القطرالسوري علي تهريب الصحف المصرية والسورية المختلفة إلي المناطق الكردية وبقية أنحاء العراق والتي ألهبت حماس الجماهير العراقية بكافة مكونتها
ساهم الأكراد في النضال مع بقية فئات الشعب العراقي ضد حلف بغداد , وكانت الحركة الكردية وأجنحتها السياسية الحزب الديمقراطي الكردستاني ،وفرع كردستان للحزب الشيوعي من أشد المعارضين لسياسة نوري السعيد (رئيس وزراء العراق) المؤيد للسياسات الغربية في الشرق الأوسط لاسيما حلف بغداد ,ورأت الحركة الكردية أن الحلف يستهدف بالدرجة الأولى كفاحها ودورها في المناطق التي يقطنها الأكراد في الدول الثلاث ( العراق وإيران وتركيا ) وهو ما ظهر جليا في وصفها بأنها تمثل حركات تمرد وعصيان ضد حكومتها المركزية.
وتعبيرا لمعارضة الأكراد في العراق لسياسة نوري السعيد وسعيه في تحقيق هذا الحلف العسكري في المنطقة طالب الأكراد بخروج العراق من الحلف من خلال المظاهرات وعقد الاجتماعات السرية والعلنية في معظم المدن الكردية, وتحولت هذه التظاهرات في مدينة السليمانية مثلا إلى مواجهات دموية مع القوات الحكومية التي استعملت الأسلحة لتفريق المتظاهرين, وكذلك الحال في مدينة كويسنجق إحدى مناطق محافظة أربيل التي مظاهرات ضد الحلف، وأسفرت المواجهات بين المتظاهرين والقوات الحكومية إلى اعتقال العديد منهم.
استمرت المعارضة الشعبية في العراق ضد حلف بغداد، وتوجت هذه المعارضة عند قيام حركة الفلاحين في مدن الفرات الأوسط وكذلك أربيل والسليمانية, وعند وفاة الشخصية الكردية البارزة الشيخ محمود الحفيد في 9أكتوبر ١٩٥٦ ، تحولت جنازته في مدينة السليمانية إلى مظاهرة شعبية ضمت أكثر من عشرين ألف شخص، رفعوا فيها شعارات ( يسقط نوري السعيد ويسقط حلف بغداد ) وتحول هذا التنديد بحلف بغداد إلى أهم الشعارات التي طرحت في جميع المظاهرات والاجتماعات التي عقدت في المدن الكردية الكبرى طوال السنوات الثلاث الأخيرة من العهد الملكي , بمباركة من جمال عبدالناصر الذي كان بمثابة المعول الذي حطم حلف بغداد ولم تستطع حكومة العراق ودول الحلف خاصة بريطانيا في ضم أي دولة من دول الشرق الأوسط إلية.
الأكراد والاعتداء الثلاثي على مصر 1956م.
بعد أن قامت مصر بمهاجمة حلف بغداد وعقدها مع الاتحاد السوفيتي صفقة الأسلحة التشيكية والاعتراف بالصين الشعبية, رفض الغرب تمويل مشروع السد العالي, مما دفع جمال عبد الناصر إلى تأميم قناة السويس القرار الذي عارضته وبشدة الدول الغربية وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا , وشاركتهم حكومة نوري السعيد في العراق في هذا التوجه , حيث كان في زيارة في لندن يوم قرار التأميم وطالب إيدن رئيس الوزراء البريطاني قائلا " يجب أن تضربه وأن تضربه الآن وأن تضربه بقسوة" وواصفه بأنه يبحث عن زعامة ويقصد بذلك جمال عبدالناصر. وعليه قامت بريطانيا وفرنسا بالتنسيق مع إسرائيل بالهجوم على مصر في أكتوبر 1956م .
تفاعل الشعب العراقي وعلى رأسه الحركة الكردية التي أبدت تأييدها وتعاطفها الشديد مع الإجراءات الناصرية منددة بالاعتداء الثلاثي علي مصر وأعلن الحزب الديمقراطي الكردي هو الأخر مساندته لجمال عبدالناصر في قراراته وأعلن مصطفى البارزاني رئيس الحزب المنفي إلي الاتحاد السوفيتي منذ 1946م أنه على استعداد مع بقية البارزانيين في الاتحاد السوفيتي للذهاب إلي مصر للمشاركة في التصدي لهذا الاعتداء وقد جاب المدن السوفيتية المهمة لحشد الزعماء السوفييت من أجل مناصرة مصر وشعبها. وعليه أصدر بولجانين الإنذار السوفيتي لكل من لندن وباريس وتل ابيب .ولقد لقي موقف مصطفى البارازاني استحسان جمال عبدالناصر وشكره من خلال السفارة المصرية في موسكو.
وفي كردستان العراق قام الحزب الديمقراطي الكردستاني بمظاهرات حاشدة شارك فيها الجميع وعلي رأسهم قادة الحزب مما كان له أثر في ملاحقتهم فيما بعد من قبل السلطات العراقية بحجة دعم مصر, وقام الأكراد المقيمين في بغداد بمظاهرات مماثلة ,وفي السياق ذاته شكل الحزبان الديمقراطي والشيوعي في كردستان وفدا إلي السفارة المصرية في بغداد عبروا عن تأييدهما لجمال عبدالناصر وشجب الاعتداء الثلاثي, ولقي ذلك استحسان جمال عبدالناصر, كما قام المحامون الأكراد بعمل اضراب في كركوك بعدم الذهاب إلي المحاكم تضامنا مع مصر ,وفي نفس السياق قامت مظاهرات عمت مدينة السليمانية وجهت بالقوة والعنف والاعتقالات من قبل رجال الامن .
كان لتأييد الأكراد لمصرإبان الاعتداء الثلاثي عليها أثره البالغ في توثيق الصلة بين الدولة المصرية والأكراد بصفة عامة لاسيما أكراد العراق بصفة خاصة, وتفعيلا لهذه الصلة قام عبد الناصر بإنشاء إذاعة كردية موجهة بالقاهرة عام 1957م وذلك لنشر أفكار ومبادئ ثورة يوليو المصرية إلى خارج مصر وكأداة لمواصلة المعركة ضد الاستعمار، وايضاح المخططات الاستعمارية والتصدي لأفعال وقرارات السياسيين في البلدان العربية وغيرها الموالين للاستعمار, واتخذ عبدالناصر إنشاء الإذاعة الكردية بعد النجاح إذاعة صوت العرب في تشكيل وجدان الشارع العربي الذي صار يسير في ركاب الساسة المصريين بزعامة جمال عبدالناصر, ولقد لعبت إذاعة صوت العرب دورا مهما في حشد جماهير العراق أثناء الصراع بين ناصر ونوري السعيد رئيس الوزراء العراقي والأكثر من هذا قيام عبدالناصر بإنشاء إذاعة صوت العراق الحر ورد نوري السعيد بالمثل وأنشأ إذاعة صوت مصر الحر لتدشين حرب إعلامية بين النظامين حاول كلاهما تقويض الأخر من خلال تلك الإذاعات .
ولما التفت الجماهير الكردية حول إذاعة صوت العرب إبان الاعتداء الثلاثي على مصرفي المدن والريف الكردي, علي الرغم من أن شطرا لا بأس به منهم لا يحسنون اللغة العربية حيث أن القاهرة أضحت في عيونهم قلعة التحرر الوطني ,وحاول عبدالناصر الاستفادة من هذا التوجه لتكوين جبهة أخري معارضة داخل المحيط العراقي لزيادة الضغط على حكومة نوري السعيد, وتفعيلا للمعارضة العراقية أنشأ عبدالناصر القسم الكردي في الإذاعة المصرية بناء على طلب من بعض الشخصيات الكردية البارزة مثل عزيز شريف و جلال الطالباني وشخصيات كردية سورية أخرى, وعمل في هذه الإذاعة الطلاب الأكراد في جامعة القاهرة وجامعة الأزهر ومن أبرزهم الرئيس العراقي السابق فؤاد معصوم .
استطاع القسم الكردي في إذاعة القاهرة، إثارة الشعور القومي لدى الشعب الكردي في جميع الدول التي تتقاسم کردستان باعتبارها كانت إذاعة موجهة بالأساس إلى الدول الأعضاء في حلف بغداد( تركيا – العراق - إيران وباكستان ) ، ولاسيما الحكومة العراقية التي اتخذت موقفاً عدائياً من الإذاعة ودورها ، فقد اعتبر نوري السعيد بأن بث إذاعة القاهرة باللغة الكردية يُعد بداية محاولات جمال عبد الناصر للعب بالورقة الكردية , كما أبدت الحكومة التركية احتجاجا ، على لسان سفيرها في القاهرة بفتح الإذاعة , الذي تقابل مع عبد الناصر للمناقشة معه حول دور الإذاعة وخطابها السياسي التحريضي ، إلا أن جمال عبد الناصر رد عليه بذكاء قائلا :
" إن هذه الإذاعة كردية ولا يوجد أكراد عندكم حسب ما تدعون ، وكلامها موجه إلى أكراد سورية والعراق فلم الخوف. فرد السفير التركي قائلاً : نعم يا سيادة الرئيس عندنا أكراد ، فأخرج عبدالناصر ورقة بيضاء وطلب منه أن يثبت ذلك ثم وعده باتخاذ الإجراءات اللازمة لو اثبت ذلك."
وكذا عارضت إيران إنشاء الإذاعة الكردية بالقاهرة وجاء ذلك علي لسان الشاه محمد رضا بهلوي (1941- 1979م) ورصد مبالغ ضخمة لإقامة إذاعة كردية موجهة من مدينة كرمنشاه الكردية ، لمواجهة الإذاعة المذكورة والحيلولة دون تأثيرها على الطبقة المثقفة الكردية في ايران .
وعندما قامت الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسورية في 22فبراير عام ١٩٥٨ م، أيد الأكراد حتى أن العديد من الشخصيات الكردية أظهرت حماسة تجاه ذلك ، وصوت جميع النواب الأكراد في المجلس التشريعي السوري لصالح الوحدة مع مصر. وأيدها الحزب الديمقراطي الكردي في العراق ,في المقابل عارض هذا الحزب الاتحاد الهاشمي الذي أعلن بين الأردن و العراق في 14 فبراير 1958م الذي لم يشر من قريب أو بعيد إلي حقوق الأكراد العراقيين في الاتحاد الهاشمي .
عبدالناصر والأكراد في ظل ثورة العراق 1958-1963م.
اتفقت معظم المصادر على وجود اتصالات بين جمال عبد الناصر الضباط الاحرار في العراق قبل 1958 حيث طالب هؤلاء الضباط من عبدالناصر ضرورة التأييد السياسي لهم عند قيام بالثورة والوساطة لدي السوفيت لضمان تأييدهم وتأييد ثورتهم علي النظام الملكي الموالي للغرب , ولما قامت الثورة في 14 يوليو 1958 م كان عبدالناصر أول من أعترف بالثورة العراقية . وأمر بإرسال كافة المتطلبات العسكرية لحكومة الثورة في العراق ,وكذا تقديم الدعم الإعلامي لهم.
وتزامنا مع ذلك استقبلت الجماهير الكردية نبأ قيام الثورة بالتهليل والترحاب وأبرق قادة الحزب الديمقراطي الكردستاني برقية تأييد لقادة الثورة في بغداد , وأرسل أحد قيادته إبراهيم أحمد علي رأس وفد لمقابلة عبدالكريم قاسم وأعلان تأييد الأكراد للثورة ودعمه لها بما يحقق أهداف الأكراد والعرب معا, كما أرسل زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني الملا مصطفى البارزاني رسالة من منفاه في موسكو أيد فيها الجمهورية الجديدة طالبا فيها بالسماح بالعودة من منفاه وردت عليه حكومة الثورة بالإيجاب.
اتخذت حكومة الثورة عدة خطوات نالت رضا الأكراد ويمكن إجمالها فيما يلي:
وفوق ذلك دعى عبدالكريم قاسم مصطفى البارازاني بالعودة إلي العراق وكذا باقي البارزانيين معه , وعندئذ اقترحت الحكومة السوفيتية وإبراهيم أحمد سكرتير الحزب الديمقراطي وكذلك جلال الطالباني على البارزاني بالعودة إلي العراق عبر القاهرة وأن يلتقي بجمال عبدالناصر في طريق عودته . وبالفعل تقابل البرازاني مع جمال عبدالناصر في أغسطس 1958م في منزل الأخير وجرى بينهما مباحثات حول القضايا الإقليمية والدولية.
أثار التقارب الكردي المصري مخاوف إيران وتركيا وهوما عبر عنه أحد رجال الأمن الإيرانيين بأن عبدالناصر يؤيد إقامة دولة كردية في كردستان يستطيع من خلالها الاتصال بريا بالاتحاد السوفيتي عبر الدولة المزمع إنشائها , ودعت حكومة أنقرة إلى اتخاذ كافة تدابير الحذر والحيطة من هذا التقارب .
وعندما طرح مشروع الوحدة أو الاتحاد مع الجمهوريات العربية المتحدة ذلك المشروع الذي تبناه عبد السلام عارف, وأيدته الأحزاب القومية وعلي رأسها البعث والاستقلال بينما عارضه عبدالكريم قاسم والشيوعيين, الذين سيطروا على الساحة السياسية في العراق علنا وبدعم مباشر من عبد الكريم قاسم ، وأدان جمال عبد الناصر النشاط الشيوعي في العراق ، وأعلن بانه لن يسمح بسيطرة الشيوعيين على السلطة في البلدان العربية ، وبدأت الصحافة المصرية تتحدث عن مخططات الشيوعيين في العراق ، ولعبت سفارة الجمهورية العربية المتحدة في بغداد دورا كبيرا في توضيح صورة الصراع الدائر بين الحزب الشيوعي والقوميين العرب ، ما دفع بعبد الكريم قاسم الى اتخاذ اجراءات مشددة ضد اعضاء السفارة المصرية في بغداد . كما تعرض بعض الفنيين والخبراء المصريين للتضييق والإهانة .
وعلى إثر تدهور العلاقات بين حكومتي القاهرة وبغداد تغير موقف الأكراد من جمال عبد الناصر نظرا لموقفه من الأحداث الداخلية في العراق , ومن ثم انقسم الأكراد بين مؤيد لعبد الناصر وأخر معارضا له , فقد تبني الفريق الأول الذي يقوده إبراهيم أحمد سكرتير الحزب الديمقراطي الكردستاني ضرورة التعاون بين عبدالكريم قاسم والقوميين العرب داخل العراق وخارجه ورأى أن المنجي للأكراد لا يتم إلا بالتقارب مع جمال عبدالناصر والجمهورية العربية المتحدة , بينما رأي الفريق الأخر بزعامة السكرتير السابق لنفس الحزب حمزة عبدالله ضرورة التعاون مع الشيوعيين وذلك لسيطرتهم الفعلية على المشهد السياسي وتأييد عبدالكريم قاسم لهم وقد أيد هذا البارزاني هذا الاتجاه حيث رأى ما يلي :-
واستمرارا للصراع بين عبدالكريم قاسم ومن ورائه الشيوعيين في العراق وجمال عبد الناصر ومن ورائه القوميين العرب أيد الأخير عبد الوهاب الشواف في ثورته في الموصل في مارس 1959م وأمده بالسلاح والمؤن من الإقليم الشمالي ( سوريا ) وتزامنا مع ذلك عاد البارزانيين باقية المنفيين من الاتحاد السوفيتي , وهو ما استغلته الصحافة المصرية في شن حملات دعائية ضد حكومة العراق والشيوعيين والاكراد معا, حيث أكد على أن البارزانيين العائدين علي سفن سوفيتية تمر عبر قناة السويس إلي البصرة محملين بالأسلحة والذخيرة ومدربون على حرب العصابات وذلك لإجهاض حركة الشواف في الموصل , كما أشارت لدور الأكراد في دعم نظام عبد الكريم قاسم الموالي للشيوعية .
ورد الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) من خلال جريدته أن عبدالناصر كان يسعي ويخطط لإفشال تجربة الجمهورية العراقية الجديدة مستغلة احداث ثورة الشواف في الموصل, كما نشرت مقالا اخر موسوما بجمال عبد الناصر بديلا لنوري السعيد , ودافعت عن الأكراد العائدين إلي العراق ضد ما نعتتهم به الصحافة والإذاعة المصرية .
استمرت الحرب الإعلامية بين الصحافة والإذاعة المصرية من ناحية والصحافة العراقية والكردية على وجه الخصوص من ناحية أخري فشنت الصحافة الكردية حملة ضارية على جمال عبد الناصر بعد اتهام حكومة بغداد له بأنه المحرك الرئيسي لمحاولة اغتيال عبدالكريم قاسم في أكتوبر 1959م , ونددت بحملة الاعتقالات الواسعة التي قامت الجمهورية العربية ضد أكراد الإقليم الشمالي (سوريا ).
وعندما تحسنت العلاقات بين حكومتي القاهرة وبغداد نسبيا في بدايات عام 1961م انعكس ذلك على العلاقات المصرية الكردية وهو ما أبدته الصحافة الكردية عندما عبرت عن أمنياتها للمزيد من التقارب والازدهار في العلاقات بين البلدين.
عبدالناصر والثورة الكردية في سبتمبر1961م
تبدلت العلاقات الطيبة بين حكومة بغداد البارزانيين في كردستان العراق بعد أن رجال الأمن التابعين لحكومة بغداد بتوزيع الأسلحة على العشائر المناوئة للبارزانيين هناك وأخذ رجالات حكومة بغداد والصحافة الحكومية يصفون ثورات الأكراد ثورات حركتها القوى الاستعمارية , وتجاهل عبدالكريم قاسم وجود القومية الكردية في خطبه وأحاديثه المتتالية , وتراجع الحكومة عن الحوافز التي منحت للأكراد في الدستور المؤقت للعراق .
واتخذت إجراءات قمعية ضد قادة البارتي (الحزب الديمقراطي الكردستاني) فقد أغلقت صحيفته الرسمية وهاجمت مقراته في بغداد والموصل ,وفى يناير 1961م بعد عودة البارزاني من موسكو وجد أن الحوافز التي منحت له من قبل قد سحبت من جانب حكومة قاسم , فهرب إلي بارزان خوفا من اعتقاله. وتصاعدت الأحداث وزاد التوتر بين حكومة بغداد والقوى الكردية وقام الطيران العراقي بضرب تجمعات الأكراد وتدفقت القوات البرية وفتحت الطريق بين الموصل والسليمانية وذلك في 11 سبتمبر 1961م , وعليه فقد اشتعلت ثورة الأكراد المسلحة والتي استمرت حتي نهاية حكم عبدالكريم قاسم في فبراير 1963م. وخلالها قام الجيش العراقي بالسيطرة على المدن الكردية الكبرى بينما احتفظت البشمرجة الكردية علي المناطق الريفية.
وانطلاقا من معارضة عبد الناصر لعبد الكريم قاسم رأي الأول إمكانية توظيف الثورة الكردية لأضعاف حكم الثاني وتنفيذ مأربه الخاصة فأيدت الحكومة والصحف المصرية ثورة الأكراد في العراق حتى وإن قامت بها قومية أخري او متعارضة مع القومية العربية , وابدا عبد الناصر اهتماما واسعا بالثورة الكردية وما يدور في داخل القطر العراقي بوصفه رئيس لأكبر دولة عربية مجاورة للعراق , وتبلور الموقف المصري من ثورة الأكراد فيما يلي :
ويذكر أن عبدالكريم قاسم إضفاء طابع عروبي علي الصراع مع الأكراد , لكن عبد الناصر رأى أن الصراع بين الطرفين لا يهدف إلي إيذاء العرب .
استمر اهتمام عبد الناصر بالثورة الكردية قرابة شهرين ونيف ولكنه أخذ يتناقص بعد حدوث الانقلاب السوري في 28 سبتمبر 1961م , وولى عبدالناصر اهتمامه تجاه سوريا, ومن ثم قل اهتمام الصحافة والإذاعة المصرية بثورة الأكراد, إذ زال خط التماس بين مصر والعراق بانفصال سوريا .
نظرا للسياسات التعسفية التي انتهجها عبد الكريم قاسم تجاه الأكراد وغيرهم من فئات الشعب العراقي شكل الضباط البعثيون والناصريون في الجيش العراقي تنظيما لتقويض حكم قاسم , فأتصل أحد الضباط الأكراد في الجيش العراقي بطاهر يحيى عضو البعث يقترح فيها التعاون والعمل سويا لأسقاط النظام .
ومن ثم وافق الأخير على التعاون بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والضباط البعثيين , وعليه اشترط سكرتير الحزب الديمقراطي الكردستاني علي البعثين على إقامة نظام حكم ديمقراطي للعراق وحكم ذاتي لكردستان , فوافق طاهر يحيى على الشروط الكردية .
عبدالناصر والأكراد وثورة فبراير 1963م في العراق.
وعندما نجح البعثيون في 8 فبراير 1963م تبخرت آمال الأكراد وحنث البعثيون باتفاقهم , وظهر ذلك بجلاء في البيان الأول للثورة الذي خلا من ذكر حقوق الأكراد واكتفى بأن حكومة الثورة تعمل علي تحقيق وحدة الشعب وتوطيد الأخوة بين العرب والأكراد. ومع ذلك أيد البارتي الثورة وأرسل برقية تهنئة وطالب فيه بإعلان حق الأكراد في الحكم الذاتي في إطار الجمهورية العراقية . ولكن قادة الثورة أكدوا لهم أن مسألة الحكم الذاتي تناقش في مؤتمر وطنى واسع للبت فيه, وطالبوا القادة الأكراد بضرورة مناقشة مسألة الحكم الذاتي مع الوحدة العربية.
وفي مرحلة لاحقة من المفاوضات اشترط البعثيون ضرورة موافقة جمال عبد الناصر على مسألة الحكم الذاتي للأكراد , وأشار البعض إلى أن إثارة موضوع الحكم الذاتي للأكراد كان مناورة سياسية من جانب رجال الثورة . وعندما أرسلت حكومة بغداد وفدا للمشاركة في احتفال مصر بقيام الجمهورية العربية المتحدة في 22 فبراير 1963م ضم الوفد اثنين من الأكراد وهما: فؤاد عارف وزير الدولة وجلال الطالباني ممثلا عن البارتي , اللذين تقابلا مع ناصر, وحاول الطالباني اقناع عبد الناصر بضرورة الحكم الذاتي للأكراد وذلك من مصلحة مشتركة للقوميتين العربية والكردية ، مؤكدا على أهمية وحدة العراق وتأييد الأكراد لها مع احتفاظهم بنوع من الحكم الذاتي. فرد عبد الناصر عليهما " نحن القوميون العرب لا توجد لدينا حلول جاهزة للقضية القومية لذا ستدرس هذه القضية وبعد عودتكم من الجزائر سنواصل الحديث معكم ".
وفي ذات المقابلة أبدا ممثلي الأكراد امتعاضهم من حكومة بغداد وأنهم لا يثقون فيها , واشترطت ضرورة موافقة عبد الناصر على الحكم الذاتي, وفي المقابل طلب الوفد العراقي من جمال عبد الناصر اقناع الأكراد والضغط عليهم بأن لا يطالبوا من الحكومة العراقية الجديدة مطالب تعجيزية غير قابلة للتحقيق في الظرف الراهن ، وأبدا الوفد العراقي أيضاً عن رغبته في دعم الأكراد مستقبلاً .
وبعد عودة الوفد العراقي من الجزائر أبدا عبد الناصر تفهما لرؤية الأكراد في الحكم الذاتي في إطار العراق الموحد , ولكن ضمن شروط محددة وهي :-
وعلي إثر ذلك أرسلت حكومة بغداد وفدا إلي كردستان في 5 مارس 1963م لمقابلة مصطفى البارزاني الذي طالب بالحكم الذاتي وتكوين قوات كردية في داخل الجيش العراقي , ولكن انتهت تلك المفاوضات دون تحقيق نتائج ملموسة . وفي اجتماع أخر في يومي 7 و 8 مارس توصل الطرفان إلى صيغة تفاهميه قامت على أساس الحكم اللامركزي بدلا من الحكم الذاتي .
وبعد قيام حزب البعث بثورة في سوريا في 8مارس 1963م , شرع مع نظيره العراقي في مناقشة تشكيل وحدة ثلاثية تضم مصر والعراق وسوريا , عندئذ ناقش الأكراد مع حكومة بغداد وتركزت المباحثات حول الحقوق القومية للشعب الكردي حالة انضمام العراق إلى الوحدة الثلاثية , وطالبوا بالمشاركة في المفاوضات ضمن الوفد العراقي في المباحثات الثلاثية لأنها ستؤثر عليهم , وقدموا مذكرة انطوت علي ضرورة حكم ذاتي للأكراد في حال تشكيل اتحاد فيدرالي أو وحدة اندماجية بين الأقطار الثلاث .
وجدت الحكومة أن أفضل وسيلة لإنجاح المفاوضات بين الجانبين ، إرسال رئيس الوفد الكردي إلى القاهرة لاطلاع جمال عبد الناصر على جميع المطالب الكردية ، لأن الحكومة العراقية كانت تتخوف من أي تنازل للأكراد دون موافقة جمال عبد الناصر المسبقة عليه ، ورأت أنه في حالة عدم موافقته على المطالب الكردية فان الحكومة العراقية ستتملص من المسؤولية التاريخية والسياسية وتتجنب الهجمات الدعائية لجمال عبد الناصر وبالتالي ستبرر رفضها لمطالب الكردية . ومن جانب آخر عدم موافقة عبد الناصر سيمنحهم القوة والدعم في استئناف القتال .
دارت المناقشات بين عبدالناصر والوفد الكردي حول حقوق الاكراد , ورفض تشبيه حكومة البعث في بغداد لهم بأنهم يشبهون إسرائيل ثانية ، وأضاف أن هذا أمر مؤسف من الحكومة العراقية ، لكونهم مسلمين ويدافعون عن أرضهم ولم يأتوا من مناطق أخرى من العالم إلى العراق – علي حد قوله- .وبعد إعلان عبد الناصر عن فشل مفاوضات الوحدة الثلاثية مع العراق وسوريا بسبب السياسات الخاطئة للبعث في كلا البلدين قامت القوات العراقية في يونيه 1963م بشن هجوم علي مناطق الأكراد في كردستان العراق.
واتهمت البشمرجة الكردية بأنها خرقت وقف إطلاق النار بين الجانبين, وكبدت القوات العراقية الأكراد خسائر فادحة ولكنها لم تستطع القضاء عليها, ولكنها استعادت كل ما فقدته في فصل الشتاء , وعليه فقد أظهرت ضعف البعث في إيجاد حل للقضية الكردية أو تحقيق نصر عسكري حاسم.
وفي هذا السياق أرسل البارزاني للسفارة المصرية في بغداد عدة برقيات انطوت على ضرورة تدخل جمال عبدالناصر من أجل إيجاد حل أو التسوية للقضية الكردية طالب بعض الأكراد المقيمين في بغداد اللجوء إلى السفارة المصرية إذا تعرضوا للاضطهاد والملاحقة من قبل الاجهزة الحكومية ، على الرغم من انتهاج السفارة موقفا حياديا أثناء الصراع , وأعلنت معارضتها للحل العسكري كحل وحيد لهذا الصراع , وأعلن عبد الناصر عن معارضته لهجوم القوات العراقية علي الأكراد لأنهم ليسوا دعاة انفصال عن العراق.
وشنت الصحافة المصرية هجوما على حكومة بغداد التي وصفتها بالانفصالية والمعادية للأخر وفي الوقت ذاته استخدمت وصف الثوار علي المقاتلين الأكراد وهو ما أثار استياء الأوساط السياسية والصحافية في العراق .
وإزاء تصاعد الصراع بين حكومة بغداد والحركة الكردية اجتمعت أعضاء من الحكومة الإيرانية ونظيرتها التركية في مدينة إزمير في يونيه 1963م وذلك لتأييد ودعم العمليات العسكرية التي تقوم بها حكومة بغداد ضد الأكراد وقد أثار هذا الاجتماع حفيظة جمال عبد الناصر الذي اتخذ موقفاً معارضاً لهذا التنسيق العسكري المشترك ، ونشرت جريدة الاهرام مقالا كشفت فيه مدى خطورة التعاون العسكري العراقي الايراني التركي ضد الأكراد وتسألت " هل من مصلحة الأمة العربية أن يتعاون النظام العراقي مع هذين النظامين المعاديين للأمة العربية ، وكلاهما يحتلان جزءاً من الأراضي العربية حيث تحتل إيران منطقة الأهواز العربية ، وتحتل تركيا الإسكندرونة العربية في الوقت الذي كان الأكراد وسيبقون هم الحلفاء للأمة العربية " وجاء فيها أيضاً : " أن هناك ضباط إيرانيون في كركوك مع أجهزة اتصالات لاسلكية ، وضباط أتراك في الموصل مع أجهزة لاسلكية للتنسيق العسكري ضد الشعب الكردي." كما أبدت حكومة البعث في سوريا تأييدها لحكومة بغداد ودخلت على خط المواجهة ضد الأكراد .
ويذكر أن حكومة بغداد عرضت على جمال عبدالناصر إرسال قوات مصرية لمساندتها في الحرب ضد الأكراد , ولكنه رفض ذلك بشدة , وهاجمت حكومة القاهرة وصحفها دخول القوات السورية الأراضي العراقية لمحاربة أكراد العراق.
ولما نجح عبد السلام عارف في إقصاء البعثيين عن الحكم في نوفمبر 1963م رحب عبد الناصر بهذه الخطوة , ووصف العراق بدونهم (البعثيين) بأنها ستكون أقرب إلى مصر بالإضافة إلي أن العراق عادت إلي وجهها العربي , وعندما اقترح عارف عليه ارسال قوات مصرية إلى العراق لتحل محل القوات السورية اشترط عبد الناصر ألا تكون قوات مقاتلة ضد الأكراد. وظلت في منطقة التاج شمال بغداد , وعملت كقوة دفاعية فقط .
وفى أواخر ديسمبر 1963م أقتنع عبدالسلام عارف أن العمليات الحربية ضد الأكراد لن تجد شيئا , وتوسط عبد الناصر بين الط رفين المتصارعين واقنع الرئيس العراقي بأنه يجب تقوية الجبهة الداخلية للعراق ضد الأطماع الإيرانية والتركية في العراق , كما رأى أن لغة الحوار والتفهم هي السبيل الوحيد لحل القضية الكردية وضرورة منح الأكراد حكما ذاتيا.
وعليه جرت عدة مفاوضات بين حكومة بغداد والقيادة الكردية توصلا خلالها الجانبان إلي اتفاق في 10 فبراير 1964م انطوى علي عدة نقاط من أهمها إقرار الحقوق القومية للأكراد ضمن الشعب العراقي في وحدة وطنية متآخية وتثبيت ذلك في الدستور المؤقت. وقد حظي هذا الاتفاق بقبول من عبد الناصر .
على ما يبدو أن اتفاقية ١٠ فبراير ١٩٦٤م كانت عبارة عن تأجيل الصراع بين الطرفين ولم تكن تسوية نهائية. فعبد السلام عارف بدأ يتصرف من دون ان يقيم أي وزن للمشاعر الأكراد. وبدا أن الأسباب التي توقفت عندها العمليات العسكرية قد انتهت, وبدا الطرفان يستعدان لخوض جولة أخري من الصراع , وواجه عبد السلام عارف ضغوط كبار الضباط في الجيش لاستئناف الحرب , ففي ١١ فبراير ١٩٦٥ ارسل وزير الداخلية صبحي عبد الحميد برقية شديدة اللهجة إلى مصطفى البارزاني تضمنت الآتي :-
- رفض الحكم الذاتي لأكراد العراق
- رفض حكومة بغداد احتفاظ بقوات البشمرجة
- ضرورة إخضاع المنطقة الكردية للحكومة المركزية في بغداد .
واعقب التحذير قيام حكومة بغداد بالهجوم الشامل في ٣ ابريل ١٩٦٥ على مواقع الثوار الأكراد ، واستمرت الحرب بينهما لمدة سنة دون إحراز الطرفين أي انتصار حاسم .
طيلة فترة القتال بين الجانبين كان جمال عبد الناصر يسعى باستمرار إلى إیجاد الحلول السياسية للقضية الكردية ، وكان يدعو الجانبين إلى وقف القتال والالتزام بمبدأ الأخوة والعيش المشترك في اطار الدولة الواحدة ، ويحث حكومة بغداد إلى النظر في القضية الكردية باعتبارها قضية سياسية لا تحل إلا بالوسائل السلمية والحوار المشترك والابتعاد عن الحلول العسكرية.
ففي ٢٢ فبراير ١٩٦٥ وجه جمال عبد الناصر رسالة شخصية إلى عبد السلام عارف يدعوه إلى تبني الحلول السلمية للقضية الكردية مؤكداً فيها :
"قبل عام ونصف نصحتكم بالنظر في شكل للحكم الذاتي لكردستان، الذي لم يكن يخرق وحدة أراضي الجمهورية العراقية . كنت أود ان يقابل هذا الإجراء بمثابة رحابة صدر وموقف نبيل من جانب العرب إزاء اخوتهم الأكراد, والآن فقد وضعوكم أمام الأمر الواقع بعد أن أخذوا بأنفسهم ما كان بوسعكم أن تمنحوا لهم منذ أمد طويل , وأكد عبد الناصر أن الوقت لا زال مبكراً لإيجاد الحلول والتوصل إلى اتفاق مع القوات الكردية ."
إلا أن هذه البرقية لم تجد لها آذانا صاغية بين أوساط الحكومة العراقية وأصر وزير الدفاع العراقي عبد العزيز العقيلي على سحق الحركة الكردية بقوة السلاح . كان عبدالناصر مدركا أن القضية تسير في طريق مسدود ففي لقاء له مع وفد عراقي برئاسة عبد الرحمن البزاز ، رئيس الوزراء ، وعبد العزيز العقيلي وزير الدفاع ، تساءل عن امكانية القوات العراقية بسحق القوات الكردية والقضاء عليها ، وسأل الوفد العراقي : هل تستطيعون القضاء على البارزاني ؟ اجابه وزير الدفاع بالقول : نعم أني استطيع القضاء عليه بعشرة ايام فقط فسأله عبد الناصر مستفسراً : كيف تستطيع القضاء على البارزاني بعشرة أيام ؟ أجابه وزير الدفاع بمنطق غريب قائلا : " عندما أقف أمام المذياع فأشتمك ، وإذا شتمتك أمام شعب العراق . سوف يقبل علي كل هذا الشعب ويساندني ، عندئذ أسحق البارزاني وأقضي عليه" . يبدو أن جمال عبد الناصر لم يقتنع برؤية وزير الدفاع العراقي ودعى الحكومة العراقية إلى منح الأكراد حكما ذاتيا ، فرد عليه العقيلي قائلاً : " أنت قومي وتدعى القومية ! فكيف تقبل بتقسيم العراق ؟
يتبين من رد العقيلي علي عبدالناصر بأنه قد قصد أن عبدالناصر يساند الثورة الكردية ماديا وأدبيا وأن هذا لا يرضي حكومة بغداد وكذا الشعب العراقي .
علي إثر سقوط طائرة عبدالسلام عارف في أبريل 1966م توقف القتال بين الطرفين في ظل الأوضاع المضطربة .
ولما ألت مقاليد حكم العراق إلى عبدالرحمن عارف رئيس الجمهورية ورئيس وزرائه عبد الرحمن البزاز أكد الأخير علي أن العلاقة بين حكومته والقيادات الكردية سوف تعمل من أجل النهضة لدولة العراقية الموحدة, وسوف يعمل الطرفان فيها على النهوض بها ورفع شأنها , ورفض فكرة الحكم الذاتي للأكراد , واتفق مع مصطفي البارزاني على العيش في دولة واحدة غير مقسمة .
جاءت تصريحات البارزاني علي العكس من معتقدات قادة الجيش العراقي علي أن النصر على الثورة الكردية ليس أمرا عسيرا , لذلك استمرت ضغوطهم على عبد الرحمن البزاز عارف لمواصلة الحرب والابتعاد عن السياسات السلمية مع الأكراد التي ينتهجها عبد الرحمن البزاز, ونتيجة لضغوط قادة الجيش وحثهم على الحلول العسكرية ، صرح عبد الرحمن عارف وبعد ثلاثة أيام من المؤتمر الصحفي لرئيس الوزراء بانه لن يفرط باي شبر من ارض الوطن وانه سيبذل المستحيل للحفاظ على وحدة التربة العراقية.
كان تصريح عارف بمثابة إعطاء الضوء الأخضر لقوات الجيش بإعلان الحرب على الأكراد فيما اشتهرت بحملة الربيع ,والتي انتهت بهزيمة للقوات الحكومية في معركة هندرين في مايو 1966م مما مهد الطريق لعقد اتفاقية للسلام بين الطرفين
وقد تضمن الاتفاق المكون من اثنتي عشرة مادة منها:-
أما البنود السرية الثلاثة الأخرى ، فقد تضمنت الآتي:
وعلي الرغم من البنود الجيدة التي تضمنتها اتفاقية يونيه 1966م , إلا أن بعض العسكريين في بغداد قد رفضوها مما دفع عبدالرحمن البزاز إلي تقديم استقالته وتولي اللواء ناجي طالب رئاسة الوزراء , وأعلن بعد أسبوعين بالتزامه بما توصلت له حكومة البزاز مع الأكراد وقادتهم. إلا أنه لم يفعل شيئا لتفعيل الاتفاقية .وفي الوقت ذاته اعلن عبدالرحمن عارف عن رغبته في تنفيذ بنود الاتفاقية و دشن ذلك بزيارة إلي المنطقة الكردية في أكتوبر 1966م . ومع ذلك لم يكن عارف يتمتع بالقوة الكافية لإقناع العسكريين بتنفيذ اتفاقية يونيه 1966م , وزادت من معوقات تنفيذ الاتفاقية الازمة الاقتصادية الحادة التي واجهت العراق في مطلع 1967م مما حدا برئيس الوزراء تقديم استقالته , وجمع عبدالرحمن عارف بين منصبي رئيس الدولة ورئيس الوزراء.
وبخصوص موقف عبدالناصر من هذه الاتفاقية فقد عبر عن ارتياحه لهذا الاتفاق الذي توافق مع موقف مصر الثابت في ضرورة إيجاد حلول سلمية مع بقاء المنطقة الكردية في إطار العراق الكبير .وقد ذكر ناصر لعارف أنه إذا وافق الأكراد على هذه الاتفاقية سيكون بمثابة مكسب كبير للعراق.
ولما استشار الجناح المنشق للحزب الديمقراطى الكردستاني ( البارتى) بزعامة سكرتير الحزب القديم إبراهيم أحمد الرئيس جمال عبدالناصر نصحه بالمشاركة في المفاوضات لأن القتال لن يؤدي إلى نتيجة ، إلي جانب أن علاقات مع إيران وصلت إلى درجة خطيرة واستمرار القتال سيؤدي حتما إلى تعزيز علاقات القيادة الكردية بالحكومة الايرانية والسلام سينهي هذه العلاقة .
استمرت الاتصالات والعلاقات الطيبة بين القيادة الكردية وجمال عبد الناصر ، على الرغم من مماطلات الحكومة العراقية في تنفيذ بنود الاتفاقية ، والأحداث الداخلية المتلاحقة التي تسببت في تأخير تطبيقها .
وقد اشتكى البارزاني عن طريق مبعوثه إلي عبد الناصر عزيز شريف في أغسطس 1967م والتي لم تصل إلي الجانب المصري إلا في أبريل من العام التالي من عدم تفعيل أي اتفاقية مع حكومة بغداد وبخاصة اتفاقية يونيه 1966م .ورأى أنه يجب علي عبد الناصر والحكومة المصرية التدخل والضغط على حكومة بغداد من أجل تنفيذ الاتفاقية . وجاء الرد المصري علي لسان فتحي الديب أن الموقف المصري يتلخص في مسألتين الأولي أنها تعارض الصراعات الداخلية ,أما الثانية فهي ضد الانفصال.
الأكراد وحرب 1967م.
إبان الصراع المسلح بين حكومة بغداد والأكراد في الوقت الذي تصاعد التوتر بين سوريا وإسرائيل عبرت مصر للقيادات الكردية وحكومة بغداد في فبراير 1965م أن مصر حريصة علي وحدة أراضي العراق وأنها تعارض استنزاف قواتها العسكرية في الصراعات الداخلية بين حكومة بغداد والأكراد, واذا استمر هذا الصراع المسلح فإن أمن مصر القومي سوف يتعرض للخطر, وعليه أعلنت القيادة الكردية موقفها الواضح والثابت تجاه القضايا العربية ، وأبدت تأييدها الكامل إلى جانب الدول العربية في حال قيام الحرب بينها وبين إسرائيل, وأعلن مصطفى البارزاني : إن الأكراد أشقاء الشعب العربي وهم على استعداد تام للدخول في أي معركة ضد اسرائيل لاسترداد حقوق العرب المسلوبة ". ولما قام عبدالناصر بإغلاق مضيق تيران في وجه السفن الإسرائيلية في 22مايو 1967م وطالب الأمم المتحدة بسحب قواتها من تيران والمنطقة العازلة بين مصر وإسرائيل في سيناء, وعبر الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي ( البارتي) في اليوم التالي ، في مقالة حملت عنوان ( واجب الشعب تجاه الأوضاع الراهنة ) ، أكدت فيه : " إن العراق بعربه وأكراده وسائر قومياته كتلة واحدة متراصة ومتماسكة للذود عن هذه الديار التي يحرص الجميع على سلامتهما ورد العدوان عنها " . وكتبت أيضا : " وما دام شعبنا العراقي يتكون من قوميتين رئيستين فان بتضامنهما وبشعورهما المشترك بوحدة المصير والمصالح المشتركة يمكن للعراق أن يؤدي دوره التاريخي على الوجه الأكمل ويخوض معركة مصيره وهو موحد القوى متأكد من النصر".
وعندما تصاعد التوتر بين مصر وإسرائيل ، بدأت الحكومة العراقية تستعد للمشاركة في الحرب القادمة مع إسرائيل, ولمعرفة مدى جدية الموقف الكردي إزاء الأحداث ، أوفدت حكومة بغداد ، قبل بدء حرب ٥ يونيه بعشرة ايام ، شخصيتين مقربتين إلى البارزاني هما الشيخ ناظم العاصي رئيس عشيرة العبيد والحاج شاكر الدوري ، طلبا منه ايقاف جميع العمليات العسكرية ضد الحكومة المركزية في حال ارسال القوات العراقية إلي الجبهة الاردنية ، كما طلب من البارزاني انضمام بعض قوات البشمرجة إلى الجيش العراقي تعبيرا للتعاون الوطني ، وأبدا البارزاني تعاطفه مع الطلب واستعداده بعدم القيام بأي عمل عسكري ضد القوات العراقية ، ولكن اعترض على مشاركة البشمرجة في أي نشاط عسكري مع القوات العراقية, وعاد وأكد ذلك في الرابع من يونيه 1967م نفس الوعود التي قطعها علي نفسه بعدم مهاجمة القوات العراقية أثناء مشاركتها في الحرب علي إسرائيل.
أما عن موقف فريق إبراهيم أحمد المنشق عن حزب البارتي فقد أتخذ موقفا أكثر إيجابية عندما عن استعداده لإرسال قوات كردية لتقاتل مع القوات العربية ضد إسرائيل.
وعندما اندلعت الحرب وقامت إسرائيل باحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وشبه جزيرة سيناء شجبت الأوساط الكردية المختلفة واستنكرت هذا الاعتداء في داخل كردستان وخارجها مثل البارزاني وجمعية الطلبة الأكراد بأوروبا .
انتهت حرب يونيه نهاية قاسيةً على الدول العربية بشكل عام وعلى مصر بشكل خاص ، وبدأ جمال عبد الناصر بتغيير سياسته الاقليمية والعربية مركزاً جهوده على تصفية آثار العدوان والابتعاد عن الشؤون العربية ، وهو ما انعكس علي موقف مصر تجاه القضية الكردية ، حيث قررت الحكومة المصرية ايقاف البث الكردي في اذاعة القاهرة بسبب المتغيرات الجديدة على الساحة العربية ، واتباعها سياسة تقشفية بعد الحرب .
عبدالناصر والأكراد في ظل حكم البعث 1968-1970م
لما كان البعث شريكا في انقلاب فبراير 1963م في العراق ساءت العلاقات بين البعث بجناحيه العراقي والسوري وظهر ذلك جليا عند مناقشة موضوع الوحدة الثلاثية (مصر – العراق – سوريا) في ابريل ومايو في نفس العام واستمر عبدالناصر ينظر إلي البعث بريبة وشك وعندما وصل بعث العراق إلي الحكم علي إثر انقلاب السابع عشر من يوليو 1968م بقيادة أحمد حسن البكر اتهم في خطابه السياسي علي لسان قادته بأن مصر هي من تسببت في هزيمة العرب في حرب يونيه 1967م , هذه التصريحات كانت نابعة من رغبة البعث في إزاحة عبدالناصر عن قيادته القومية للعرب واحلال العراق مكانه, وعبر هذا العداء عن نفسه في مواضع عديدة منها :
ولما وافق عبدالناصر علي مشروع مبادرة روجرز تدهورت علي إثرها العلاقات المصرية العراقية ووجه المسئولون العراقيون وكذا الصحافة العراقية سيلا من الشتائم لمصر وشخص الرئيس عبد الناصر, الأمر الذي استهجنه البارزاني وطلب من الحكومة العراقية الكف عن توجيه تلك الشتائم المخالفة للعرف الدبلوماسي. ولكن رد عليه الرئيس العراقي أحمد حسن البكر بقوله : " ليس عبد الناصر وحده يملك كلابا تنبح فلدينا نحن ايضا كلابنا النابحة" . واستمر هذا السلوك في سياسة العراق نحو مصر حتى وفاة عبدالناصر في 28 سبتمبر 1970م .
في المقابل استمرت العلاقات بين عبدالناصر والأكراد وبخاصة الجناح الذي يتزعمه إبراهيم أحمد المنشق عن البارتي تسير بشكل جيد وبخاصة ابان حرب الاستنزاف بين عامي ١٩٦٩- ١٩٧٠ ، وهذه العلاقة الحسنة مع مصر هي التي دفعت بالحكومة العراقية الى إبعاد هذا الجناح عن المفاوضات الدائرة بينها وبين القيادة الكردية والتي انتهت بإعلان اتفاقية ١١ مارس 1970م.
و تعددت الدوافع التي جعلت البعث يوقع هذا الاتفاق مع القيادة الكردية بعد عودة الصراع المسلح بينهما فبراير١٩٦٩ م منها :
ولعل الدافع الثاني كان أكثرها تأثيرا فحكومة طهران رغبت في السيطرة علي مياه شط العرب ومن ثم تجعل العراق دولة حبيسة بامتياز ,وكذا تأييدها لأكراد العراق و امدادها بالمال والسلاح المتطور في صراعها مع الحكومة العراقية.
وعليه وقع الجانبين اتفاقية مارس 1970م والتي تضمنت عدة بنود منها :
كانت مصر من بين الدول التي رحبت بالاتفاقية و إن كان قد تأخر ارسال برقية في هذا الصدد وذلك لتأزم العلاقات بين القاهرة ونظيرتها في بغداد , وبإلحاح من محمود عثمان رئيس الوفد الكردي ومسعود البارزاني عضو الوفد اللذان وقعا علي الاتفاقية علي موظفي السفارة المصرية في بغداد بضرورة مخاطبة عبدالناصر من أجل ارسال التهنئة وضرورة تنحية الخلافات مع حكومة البعث جانبا في مثل هذا الظرف التاريخ , وهو بالفعل ما حدث أن أرسل ناصر برقية التأييد في اليوم ذاته.
وأكدت البرقية التي أرسلها الرئيس جمال عبد الناصر إلى الرئيس العراقي احمد حسن البكر بمناسبة إعلان الاتفاقية على أهمية الاتفاقية لكونها خطوة عظيمة في تحقيق الوحدة الوطنية في العراق وأنها دعم للنضال العربي في مواجهة الصهيونية والاستعمار.
وخصصت الصحف المصرية صفحات عرضت فيها لتطور القضية الكردية والقتال الذي استمر بين شركاء الوطن الواحد لمدة عشر سنوات, وأجرت مقابلات صحفية مع القادة الأكراد في كردستان العراق, وكذلك لبعض المسئولين العراقيين مثل صدام حسين الذي وصف الاتفاقية بأنها " انجاز يعادل انجاز ثورة العراق في ١٤ يوليو عام ١٩٥٨م " وعن ثقته في : " أن هذه آخر المحطات غير الطبيعية في العلاقات بين العرب والأكراد " و الأضرار الناتجة عن القتال والتي بلغت 90 مليون دينار عراقي سنويا, وامتصاص الصراع لأكثر من 20 ألف جندي مرابطين في الشمال , وتوقف التنمية في الإقليم الشمالي بصفة عامة .
ولما توفي الرئيس جمال عبدالناصر في 28 سبتمبر أعربت الصحف الكردية عن أسفها الشديد لوفاته بسبب موقفه المؤيدة للقضية الكردية, فضلا عن كونه رئيسا لأكبر دولة عربية . وشارك الأكراد ضمن الوفد العراقي الذي شارك في جنازة عبد الناصر , وأرسل البارزاني برقية تعزية لأنور السادات أعرب فيها عن خالص تعازيه في هذه الفاجعة .
المراجع التي تم الاعتماد عليها
- إبراهيم الداقوقي ، الاذاعات الخارجية الموجهة وأساليبها في التأثير على المستمعين مجلة التوثيق الاعلامي ) ، العدد ( ۱ ) ، بغداد ، ١٩٨٥ .
- د . إبراهيم خليل العلاف ، عبد الناصر والأكراد ، بحث منشور في مركز الدراسات الاقليمية ، جامعة الموصل ، الموصل ، ٥ تشرين الثاني ۲۰۰۷ .
- أحمد حمروش ، قصة ثورة ٢٣ يوليو ، مصر والعسكريون, ( بيروت ، ١٩٧٤ ) .
- أحمد حمروش ، قصة ثورة ٢٣ يوليو ، خريف عبد الناصر ( بيروت ، ۱۹۷۸ ).
- أحمد حمروش ، قصة ثورة ٢٣ يوليو ، شهود ثورة يوليو ( بيروت ، ۱۹۷۷ ) .
- أحمد حمروش ، قصة ثورة ٢٣ يوليو ، عبد الناصر والعرب ( القاهرة ، د.ت ) .
- أحمد حمروش ، قصة ثورة ٢٣ يوليو ، مجتمع عبد الناصر ( بيروت ، ۱۹۷۸ ) .
- أحمد حمروش ، عبد السلام محمد عارف ، سيرته .. محاكمته .. مصرعه ( بغداد ، المثير من احداث العراق السياسية ( بغداد ، ۱۹۸۸ ) .
- اديث وائي ، ايف بينروز ، العراق دراسة في علاقاته الخارجية وتطوراته الداخلية ترجمة عبدالمجيد حسيب القيسي ( بيروت ، ۱۹۸۹ ).
- إسماعيل العارف ، اسرار ثورة ١٤ تموز وتأسيس الجمهورية في العراق ( لندن , ١٩٨٦).
- أكرم الحوراني ، مذكرات اكرم الحوراني ( القاهرة ، ٢٠٠٠ ) ، ج ٤ .
- أمين سامي الغمراوي , قصة الاكراد في شمال العراق ( القاهرة ١٩٦٧ ).
- أمين هويدي ، حروب عبد الناصر ( بيروت ، ۱۹۷۹ ) .
- أمين هويدي, ٥٠ عاما من العواصف ما رايته قلته القاهرة ، ٢٠٠٤ ) ، ط ٢ .
- أمين هويدي .كنت سفيرا في العراق ١٩٦٣ - ١٩٦٥ ( القاهرة ، ( ۱۹۸۳ ) .
- بيتر جي لامبرد , الولايات المتحدة والكورد دراسة حالات عن تعهدات الولايات المتحدة ، ترجمة مركز الدراسات الكوردية وحفظ الوثائق جامعة دهوك ( دهوك ، ۲۰۰۸ ) .
- جاسم كاظم العزاوي ، ثورة ١٤ تموز ، اسرارها ، احداثها ، رجالها حتى نهاية عبد الكريم قاسم ( بغداد ، ۱۹۹۰ ) .
- جرجيس فتح الله , رجال ووقائع في الميزان حوار اجراه مؤيد طيب وسعيد يحيى ( اربيل، ۲۰۰۱ )
- جعفر الحسيني , حافة الهاوية ، العراق ۱۹٦٨ - ۲۰۰۲ ( لندن ، ۲۰۰۳ ) .
- د . جعفر عباس حميدي , التطورات والاتجاهات السياسية الداخلية في العراق ١٩٥٣ - ١٩٥٨ ( بغداد ، ۱۹۸۰ ) .
- د . جعفر عباس حميدي ، واخرون تاريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري ١٩٥٨ - ١٩٦٨ ، ٨ شباط – ۱۸ تشرين الثاني ١٩٦٣ ) ( بغداد ، ۲۰۰۲ ) ، ج ٦ .
- جلال الطالباني ، حول القضية الكردية في العراق ( د.م ، ۱۹۸۸ ).
- جليلي جليل واخرون , الحركة الكردية في العصر الحديث ، ترجمة عبدي حاجي ( بيروت ، ۱۹۹۲ ).
- جمال مصطفی مردان , عبد الناصر والعراق ۱۹۵۲ - ۱۹٦۳ ( بغداد ، ( ۱۹۹۰ ).
- جهاد مجيد محي الدين, العراق والسياسة العربية ١٩٤١ ١٩٥٨ ( البصرة ، ۱۹۸۰).
- د جواد كاظم البياضي ، موقف الاحزاب السياسية في العراق من القضية الكردية ( ١٩٥٨ - ١٩٦٨ ) ( بغداد ( ۲۰۰۴ )
- جواد هاشم. مذكرات وزير عراقي مع بكر وصدام ، ذكريات في السياسة العراقية ١٩٦٧ - ۲۰۰۰ ( بیروت ، ۲۰۰۳ ) .
- د.حامد محمود عيسى , القضية الكردية في العراق من الاحتلال البريطاني الى الغزو الأمريكي ۱۹۱٤ - ٢٠٠٤ ( القاهرة ، ٢٠٠٥ ) .
- حبيب محمد كريم تاريخ الحزب الديمقراطي الكوردستاني العراق ( في محطات رئيسية ) ١٩٤٦ - ۱۹۹۳ ( دهوك ، ۱۹۹۸ ) .
- حميدة سميسم ، الاتصالات والاذاعات العربية الموجهة ( بغداد ، ( ۱۹۹۰ ) .
- خالد يونس خالد الزعيم الوطني الكردستاني جلال الطالباني ،قائد وفكر وعصر السليمانية ،( ٢٠٠٦ )
- خليل ابراهيم حسين ، سقوط عبد الكريم قاسم ( بغداد ( ۱۹۸۹ ).
- خليل جندي ، حركة التحرر الوطني في كوردستان الجنوبي ١٩٣٩ – ١٩٦٨ ، اراء ومعالجات ( ستوكهولم ١٩٩٤ ) .
- درية عوني ، الاكراد ( القاهرة ، ( ۱۹۹۹ )
- درية عوني ,عرب واكراد خصام ام ونام ( د.م ، ۱۹۹۳ ) .
- زبير سلطان قدوري , القضية الكردية من الضحاك الى الملاذ ( سورية ، ٢٠٠٥ ) .
- زبير سلطان قدوري ,عمر الحزب الديمقراطي الكوردستاني وحركة التحرر القومي الكوردية في العراق ١٩٤٦ - ١٩٧٥ ) ( السليمانية ، ٢٠٠٤ )
- صلاح الدين اسماعيل الشيخلي, العلاقات العراقية المصرية بين عامي ١٩٥٢ - ١٩٦١ ، رسالة ماجستير غير منشورة كلية القانون والسياسة ، جامعة بغداد ۱۹۸۰.
- صلاح نصر, مذکرات صلاح نصر الصمود القاهرة ، ۱۹۹۹ ) ، ج ۱ .
- صلاح نصر , مذكرات صلاح نصر ، الانطلاق القاهرة ، ( ۱۹۹۹ ) ، ج ۲ .
- د.عبدالحميد عبد الجليل احمد شلبي ، العلاقات السياسية بين مصر والعراق ( ١٩٥١ - ١٩٦٣ م ) ،( القاهرة ، ۲۰۰۰ )
- عبد الستار طاهر شريف ، تاريخ الحزب الثوري الكردستاني ( بغداد ( ۱۹۷۸ )
- د .عبد الفتاح علي البوتاني, العراق دراسة في التطورات السياسية الداخلية ، ١٤ تموز ١٩٥٨ . شباط ١٩٦٣ ) ( دمشق ، ۲۰۰۸ ) .
- د. عبدالفتاح علي البوتاني، موقف الاحزاب السياسية العراقية من القضية الكوردية ١٩٤٦ - ۱۹۷۰ ( دهوك ، ۲۰۰۷ ) .
-عبد المحسن خليل محمد المسالة الكردية ، احداثها تطوراتها ( بغداد ،١٩٨٦ ) ، القسم الثاني .
- عزيز شريف, مذكرات عزيز شریف ( د.م ، ۲۰۱۰ ) .
- د. علاء جاسم محمد الحربي ، رجال العراق الجمهوري ( بغداد ، ٢٠٠٥ ) .
- كاظم حبيب ، لمحات من نضال حركة التحرر الوطني للشعب الكردي في کردستان العراق ( اربيل ، ٢٠٠٥ ) .
- كامل الجادرجي, مذكرات كامل الجادرجي وتاريخ الحزب الوطني الديمقراطي ( بيروت ، ۱۹۷۰ ) .
- محمد جبير ، البؤرة من صفحات التآمر الاجنبي في شمال العراق ( بغداد ، ۲۰۰۰ ) القضية الكردية - محمود الدرة , والقومية العربية في معركة العراق ( بيروت ، ١٩٦٣ ).
- مسعود البارزاني ، البارزاني والحركة التحررية الكردية الأكراد وثورة ١٤ تموز ، ١٤ تموز ١٩٥٨ – ۱۱ ايلول ١٩٦١ ) ( کردستان ، ۱۹۹۰ ).
- مسعود البارزاني , البارزاني والحركة التحررية الكردية ، ثورة ايلول ١٩٦١ - ١٩٧٥ مع ملحق وثائقي ( اربيل ، ۲۰۰۲ ).
- منذر الموصلي ، الحياة السياسية والحزبية في كوردستان ( لندن ) ( ۱۹۹۱ ) .
- منذر الموصلي , عرب واكراد رؤية عربية .. للقضية الكردية ( بيروت ، ١٩٩٥ ) .
- منذر الموصلي ، القضية الكردية في العراق " البعث والاكراد " ، رؤية عربية للقضية الكردية في العراق ( بيروت ، ۲۰۰۰ ) .
- د. ميقان عارف بادي ، موقف الاحزاب السياسية العراقية من القضية الكوردية ١٩٤٦ - ۱۹۷۰ ، دراسة تاريخية دهوك ، ( ۲۰۰۸ ).
- هاني الفكيكي ، أوكار الهزيمة تجربتي في حزب البعث ( قم ، د . ت ) .
الدوريات المصرية
- الجرائد المصرية :
- الاخبار 1952-1970م .
اخبار اليوم1952- 1970م .
الاهرام 1952-1970م .
الجمهورية 1952-1970م .
من زوايا العالم
من زوايا العالم