تعني الديمقراطية اصطلاحا الاتكال على مبدأ سيادة الشعب، حيث يمتلك المواطنون الحق في اختيار ممثليهم وصناع القرار من خلال انتخابات حرة ونزيهة. وتقوم على عدة مبادئ أساسية، مثل حكم القانون، والفصل بين السلطات، وضمان الحقوق والحريات الفردية، وحرية التعبير، والمشاركة السياسية. كما تُعتبر الديمقراطية وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين، بغض النظر عن خلفياتهم العرقية أو الدينية أو الفكرية. وتأخذ الديمقراطية أشكالًا متعددة، منها الديمقراطية المباشرة، حيث يشارك المواطنون بأنفسهم في اتخاذ القرارات، كما كان الحال في أثينا القديمة، ومنها الديمقراطية التمثيلية، حيث يُنتخب ممثلون عن الشعب لإدارة شؤونه واتخاذ القرارات نيابة عنه، وهو الشكل الأكثر انتشارًا اليوم. بالإضافة إلى ذلك، هناك نماذج مختلفة مثل الديمقراطية الليبرالية، التي تركز على الحقوق الفردية واقتصاد السوق، والديمقراطية الاجتماعية، التي تهتم بتقليص الفجوة الاقتصادية بين الطبقات وتحقيق العدالة الاجتماعية.
كذا وفي السنون الأخيرة جرت محاولات جرها لتكون أكثر جماهيرية وأقل نخبوية. فالديمقراطية في ذاتها رغم أنها تعني حكم الأغلبية، لكنها في باطنها الدلالي والاشتقاقي وتاريخ تطورها حوت سمات وإيقاعات نخبوية. الديمقراطية في نشأتها منذ أثينا القديمة في القرن الخامس قبل الميلاد، كانت تعبيرا عن جماعات النخبة؛ إد من بين ٢٠٠ ألف إلى ٤٠٠ ألف من سكان أثنيا، كان هناك ٣٠ ألف إلى ٦٠ ألف مواطن لهم الحق في ممارسة الديمقراطية، فلم تكن هذه الدمقراطية الأثينية تشمل النساء والعبيد والأجانب والذكور دون سن العشرين. وفي روما لم يكن السينات إلا تعبيرا عن النخبة الكاملة. وفي نشأتها الغربية في العصر الحديث، لم تكن تعني الديمقراطية أبدا إلا تعبيرا عن البرجوازية. وفي السنوات الأخيرة جرت محاولات جعلها أكثر إنسانية، أو لنقل أقل نخبوية، ومن تلك المحاولات الجديرة بالملاحظة والاعتبار، محاولة عبد أوجلان، والتي حكمت أغلب إنتاجه وإسهامه النظري الذي قدم في مجمله بديلًا للمنتج الفكري والسياسي الحداثي الغربي، وهي المحاولة التي تمثلت بالأساس في مانيفستو الحضارة الديموقراطية.. الديمقراطية التي وفق إطارتها عبد الله أوجلان، الديمقراطية مفهوم متجاوز لانحيازات التمثيل المصالحي السياسي والطبقي والهوياتي والإثني الضيقة، لتغدو في المفهوممنصة نظرية تأسيسية ذات حواف تشاركية تحتمل طيف إنساني واسع ومتنوع وليس كردي فقط. اختصارًا، الديمقراطية لدى أوجلان وفي أغلب كتاباته حاول التأصيل وصفها منتج إنساني لا أيديولوجي.
قدم عبد الله أوجلان، في كتاباته رؤية نقدية متكاملة لمفهوم الديمقراطية، تتجاوز النماذج الغربية التقليدية، وتطرح بديلًا يتناسب مع واقع المجتمعات في الشرق الأوسط. فهو يرى أن الديمقراطية الحقيقية ليست مجرد آليات انتخابية أو مؤسسات دستورية، بل هي نموذج للحياة الاجتماعية والسياسية يقوم على العدالة، والمشاركة الشعبية، والتحرر من أنماط الاستبداد السياسي والاقتصادي والثقافي. مفهوم يراها متجاوزة لأن تكون مجرد نظام سياسي يعتمد على الانتخابات والتمثيل السياسي، بل هي مفهوم أكثر شمولًا يرتبط بالتحرر المجتمعي والعدالة الاجتماعية. في فكره، ترتبط الديمقراطية ارتباطًا وثيقًا بفكرة "الأمة الديمقراطية"، التي تقوم على مبدأ الإدارة الذاتية والتعددية، حيث تُمنح المجتمعات المحلية سلطة إدارة شؤونها بعيدًا عن مركزية الدولة القومية التقليدية. يعتبر أوجلان أن الدولة القومية الحديثة، بطبيعتها المركزية والقمعية، تعيق تحقيق الديمقراطية الحقيقية، لأنها تفرض هوية قومية واحدة وتستخدم القوة لفرض سيطرتها على المجتمعات المختلفة. لذلك، يقترح نموذجًا بديلًا للديمقراطية يقوم على اللامركزية، حيث تُدار المجتمعات المحلية من خلال مجالس شعبية ومؤسسات ديمقراطية قاعدية تتيح مشاركة أوسع للمواطنين في اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
يركز أوجلان على فكرة "الديمقراطية المجتمعية"، والتي يطرحها كبديل لكلٍّ من الدولة القومية المركزية والأنظمة السلطوية. في تصوره، لا يمكن للديمقراطية أن تتحقق في ظل الدولة القومية التي تقوم على الإقصاء والهيمنة، بل يجب أن تتجسد في شبكات مجتمعية لا مركزية تتيح لجميع الأفراد والفئات فرصة المشاركة الفعلية في صنع القرار. فهو يرفض مفهوم السيادة المطلقة للدولة، ويرى أن الحل يكمن في تفكيك السلطة المركزية وإعادة توزيعها عبر مجالس محلية وإدارات ذاتية تعتمد على التعاون والتوافق، بدلًا من التنافس والصراع. جانب آخر مهم في تصور أوجلان للديمقراطية هو علاقتها بالتحرر الاجتماعي، وخاصة تحرر المرأة. فهو يرى أن الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق في مجتمع يقوم على النظام الأبوي، حيث أن اضطهاد المرأة هو النموذج الأول لكل أشكال الاستبداد السياسي والاقتصادي. لذلك، فإن أي مشروع ديمقراطي حقيقي يجب أن يتضمن تحرير المرأة وضمان دورها الفاعل في المجتمع، وليس فقط منحها حقوقًا شكلية ضمن نظام ذكوري. كما أن الديمقراطية عند أوجلان ترتبط بمفهوم "الاقتصاد المجتمعي"، حيث يؤكد أن النظام الرأسمالي القائم على الاحتكار والاستغلال يعوق تطور المجتمعات ويؤدي إلى تفاقم الفجوات الطبقية والهيمنة السياسية. من هذا المنطلق، يدعو إلى نموذج اقتصادي تشاركي قائم على التعاونيات والإنتاج المحلي المستدام، حيث يكون الاقتصاد في خدمة المجتمع وليس العكس. فهو يرى أن الاستقلال الاقتصادي للمجتمعات شرط أساسي لتحررها السياسي والثقافي.
يعد التعامل مع أعمال أوجلان الفكرية مهمة شاقة، فهو يجمع بين التاريخ، وعلم الآثار، والنظرية النقدية، والبيئة الاجتماعية، وفلسفة العلوم، في سرديات غنية بالاستعارات تهدف إلى إلهام الممارسة الثورية الشعبية. إلى جانب ذلك، هناك تحديات أخرى أقل وضوحًا لكنها ليست أقل أهمية عند دراسة أعماله. أولًا، أوجلان سجينًا سياسيًا لدى الدولة التركية منذ العام ١٩٩٩. وقد كُتب معظم أعماله الأكثر أهمية وتأثيرًا في ظل ظروف قاسية وعزلة مشددة، حيث تم تقييد وصوله إلى الكتب والمواد البحثية، وحتى أدوات الكتابة، بشكل تعسفي على مدى سنوات. كما كانت اتصالاته مع العالم الخارجي محدودة للغاية، واقتصرت تقريبًا على محاميه. إن هذه الظروف بالكاد توفر بيئة خصبة للعمل الأكاديمي المستدام، فضلًا عن الأثر العقلي والجسدي الناجم عن ظروف الحبس الانفرادي الطويل. ومع ذلك، تمكن أوجلان من إنتاج قدر كبير من المواد المكتوبة، حيث كان يمرر مخطوطاته المكتوبة بخط اليد لمحاميه كجزء من تحضيرات دفاعه القانوني، وبمجرد أن تصل إلى الناشرين، لا تتاح له فرصة تعديلها أو مراجعتها. ثانيًا، لا يمكن اعتبار أوجلان أكاديميًا تقليديًا، كما أن أهدافه ليست أكاديمية بحتة، بل يمكن اعتباره من "المثقفين العضويين" وفقًا لغرامشي، أي منظّرًا ثوريًا نشأ من قلب الحركة التحررية الكردية ويعبر عن مصالح الفئات المهمشة. ورغم أن كتاباته الناضجة تُظهر ميلًا واضحًا نحو مركزية القضية الكردية، إلا أنه يرفض القومية الكردية الشوفينية، إذ إنه يسعى إلى مشروع أكثر كوزموبوليتية، يضع النضال الكردي كجزء من النضال الإنساني العام للتحرر من المؤسسات والعلاقات الاجتماعية القمعية.
ما يميز أعماله هو تركيبها الإبداعي للأفكار. وكما لاحظ ديفيد غريبر، فإن "ما يفعله أوجلان هنا هو أنه يعيد ترتيب نفس القطع بطريقة مختلفة، مستلهمًا ذلك من كردستان موطنه". عند هذا التقاطع بين الأفق التاريخي الواسع والتجربة التاريخية الخاصة بالكرد، يكون فكر أوجلان في أوجّ ثرائه.ولنقترب أكثر من مفاهيم وسياقات الدمقراطية كما دونها أوجلان بكلماته: رغمَ كونِ "المجتمعِ الديمقراطيِّ" و"العصرانيةِ الديمقراطيةِ" مصطلحَين سياسيَّين، إلا إنّهما أَقربُ إلى الصحيحِ والجوهر، بحُكمِ أنّ الساحاتِ والشرائحَ التي يَتَضَمَّنانها تُشَكِّلُ الكتلةَ الرئيسيةَ للمجتمع، فمصطلحا "الحداثةِ الأَحَدِّية" والحداثة الممهورةِ بطابعِ الرأسمالية" مُبهَمان جداً ومشحونان بنسبةٍ عليا من الأخطاء. إن الامتياز الأهم الذي توفره المظلة الضخمة لمصطلح الحضارة الديمقراطية أو العصرانية الديمقراطية، هو الانعتاق من أسر القالب الواحد، وبنية الجبر القادمة من أعلى سياسيا ومجتمعيا لتغلف وتخترق كامل الفسيفساء الاجتماعية. ذلك أنّ الطبيعةَ الاجتماعيةَ معقدة، ولا تدلُّ على شيءٍ واحدٍ أو لونٍ واحدٍ خالصٍ في أيِّ زمنٍ كان. هذا ويجبُ ألاّ ننسى أنّ التناقضَ يقتضي الاختلاف. والاختلاف هو معنى الحياة. فاللحظةُ التي يتوقف فيها التناقض، وبالتالي الاختلاف، هي اللحظةُ التي تنتهي فيها الحياة. والبحثُ الدائمُ عن التماثُل يعني إنكارَ الحياة، هذا إذا لَم يَكُن يَهدِفُ إلى سحقِ الأطرافِ المضادة. مِن هنا، فمساعي الفاشيةِ والحداثةِ الرأسمالية في القضاءِ على جميعِ الاختلافاتِ الاجتماعية، وسعيُهما لاختزالِها في لونٍ واحدٍ فيما خلا الموضة، هو مثالٌ آخر يبرهنُ مدى تَضادِّهما مع الحياة.
حقيقة، يمكن التعامل مع السياسةُ الديمقراطيةُ بمعناها الضيقِ ليست فقط (بوصفها) وسيلةً لتفعيلِ المجتمعِ السياسي. بل وهي عمليةُ كشفِ النقابِ عن المجتمعِ التاريخيِّ بجميعِ جوانبه. وفيما يخصُّ الجهودَ الراميةَ إلى شرحِ الحداثةِ الرأسماليةِ والصناعويةِ انطلاقاً من منظورِ السياسةِ الديمقراطية، فعندما تلتحمُ تلك الجهودُ مع الحقيقة، فحينها فقط تظهرُ القوةُ العظمى للمجتمعِ الأخلاقي والسياسي فيما يتعلقُ باتخاذِ القرارِ وسلوكِ الممارسةِ العملية. وحينها يُمكن لسؤالِ "أيّةُ عصرانيةٍ وحياةٍ عصرية؟" أنْ يَجِدَ جوابَه اللائق به. وتجربةُ الهيمنةِ الرأسماليةِ السائدة طيلةَ القرونِ الأربعة الأخيرةِ خيرُ برهانٍ على عدمِ وجودِ أيِّ أسلوبٍ آخر قادرٍ على إيجادِ الأجوبةِ الكافية والمؤديةِ إلى النجاح. بينما العصرانيةُ الديمقراطية بمُثُلِها وممارساتها العمليةِ هي الجوابُ الكفءُ لهذه التجربةِ التاريخية.
ومن خلال تأثره ببوكتشين، يطرح أوجلان فكرة التنظيم الذاتي المجتمعي من الأسفل كبديل للنهج الدولتي في كل من الرأسمالية الليبرالية والشيوعية البلشفية. لكن في سياق إعادة تفسيره، يحوّل مفهوم بوكتشين (ما بعد) الأناركي عن الكومونة إلى مفهوم "مجتمعي طبيعي" شبه طوباوي. وبينما يروّج بوكتشين للتنظيم الذاتي المحلي كإجراء سياسي معاصر، يميل أوجلان إلى رؤية المجتمعات الأخلاقية أو الدينية في الشرق الأوسط على أنها انعكاس لحضارة بلاد الرافدين المستمرة عبر الزمن. عنصر أساسي في المشروع السياسي لعبد الله أوجلان هو السعي إلى تحديد ملامح حياة أخلاقية وذات معنى. يرى أوجلان أن الحياة ذات المعنى تتجلى، على الأقل جزئيًا، في العيش بتواصل وثيق مع البشر الآخرين والطبيعة. فالحداثة الرأسمالية، كما يراها، قد جردت الحياة من معناها، واستبدلتها بعقلانية أداتية بحتة. يشيد أوجلان ببصيرة نيتشه المبكرة في تشخيصه للحالة الحديثة، حيث يصفه بأنه "يمكن اعتباره نبي العصر الرأسمالي". وبالمثل، يرى أن ماكس فيبر قد أشار إلى الطابع المادي للحضارة عندما وصف العقلانية بأنها السبب وراء نزع السحر عن العالم.
وعلى الرغم من أنه سجين فعليًا لدى القوى التي ينتقدها، إلا أن أوجلان لا يستسلم لليأس، ولا يتبنى نظرة فيبر التشاؤمية بشأن استحالة تجاوز مأزق الحداثة. في هذا السياق، تتقارب نظرته الدنيوية المؤيدة للحياة مع نيتشه. يستذكر أوجلان تجوله في الجبال المحيطة بقريته في طفولته، قائلاً: "عندما كنت صغيرًا، وصفوني بأنني 'مجنون بالجبال'. وعندما علمت لاحقًا أن مثل هذه الحياة كانت مخصصة للإله ديونيسوس والمجموعة الفنية الحرة من الفتيات (الباخيات) اللاتي كن يسرن أمامه وخلفه، شعرت بالحسد تجاهه. يُقال إن الفيلسوف نيتشه فضل هذا الإله على زيوس، بل إنه كان يوقع العديد من أعماله باسم "تلميذ ديونيسوس". عندما كنت في قريتي، كنت أرغب دائمًا في اللعب مع فتيات قريتي. وعلى الرغم من أن هذا لم يكن يتماشى مع القواعد الدينية، فقد كنت أراه الأمر الأكثر طبيعية على الإطلاق. لم أوافق أبدًا على ثقافة تقييد النساء داخل المنازل. ما زلت أرغب في الانخراط معهن في مناقشات حرة غير محدودة، في الألعاب، وفي قداسة الحياة كلها. وما زلت أقول 'لا' قاطعة للعبودية والروابط التي تفوح منها رائحة الامتلاك والتي تقوم على علاقات القوة".
في فلسفة نيتشه، يمثل ديونيسوس رمزًا للنمو والتغلب والصحة، وهو استعارة للحياة المؤكدة لذاتها. فهو يرمز إلى القوى البشرية وإمكاناتها في الإبداع والتدمير، لا سيما فيما يتعلق بالقيم الثقافية. كما يوضح بيرنهام، فإن النمو، وخصوصًا في التعبير عن القوة والشعور بها، يتطلب الإبداع (ابتكار ممارسات وقيم جديدة) والتدمير (هدم الممارسات والقيم القائمة، بما في ذلك تلك الموجودة داخل الذات). من الواضح أن أوجلان قرأ نيتشه بعمق، ولافت للنظر أن إشاراته إلى ديونيسوس تتبعها إدانة مباشرة للقيم الثقافية الذكورية وسعيه إلى حياة حرة متحررة من هذه القيود.
يكشف أي تفاعل مع كتابات أوجلان عن انشغاله العميق بالتاريخ، لا سيما بتاريخ غرب آسيا. وكما يشار أن تاريخ الكرد طُمِس وتم تهميشه من قبل الدول والإمبراطوريات القوية. لذا، فمن غير المفاجئ أن يركز أوجلان على الوكالة التاريخية للكرد ويحتفي بإنجازاتهم في تحليلاته. لكن اهتمامه بالتاريخ يتجاوز القومية الكردية، إذ يحمل توجهًا كوزموبوليتيًا أوسع. من يترقب العثور في كتابات أوجلان الناضجة على بيان سياسي تقليدي يحدد الأهداف المباشرة أو الاستراتيجيات أو التكتيكات، سيصاب بخيبة أمل. ما سيجده هو شيء أكثر عمقًا ورهافة: تاريخ تشخيصي يرى أن الأزمات المعاصرة متجذرة في العلاقات التاريخية المستمرة. بهذه الطريقة، تصبح أهداف أوجلان السياسية والاستراتيجية أكثر وضوحًا: التغيير لا يتم عبر الدولة، بل عبر تفكيك هياكل القمع التاريخية، وإعادة تصور السياسة كمساحة للحرية والمشاركة المباشرة.
بدأ أوجلان بمراجعة نقدية للأيديولوجيا القومية والماركسية اللينينية لحزب العمال الكردستاني في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، على خلفية انهيار الكتلة الشرقية والاتحاد السوفيتي، والمأزق العسكري للحزب في مواجهة الدولة التركية. غير أن نقده الذاتي أخذ شكلًا منهجيًا ومستدامًا بعد اعتقاله بمساعدة أمريكية في كينيا عام 1999 وسجنه لاحقًا في تركيا. أدى ذلك إلى رفض البرنامج القومي للحزب وأيديولوجيته الماركسية اللينينية، وهو رفض مثّل الجانب التفكيكي في تحول الحزب، ممهّدًا الطريق للجانب التركيبي المتمثل في الكونفدرالية الديمقراطية.
في جوهر هذا التحول الذي قاده أوجلان في الحزب يكمن "قتل الذكر المهيمن" و"إلغاء الدولة" لتأسيس مجتمع جديد "ديمقراطي، قائم على المساواة بين الجنسين، صديق للبيئة، حيث لا تكون الدولة العنصر المحوري. يرى أوجلان أن صعود النظام الأبوي والدولة كان عملية متشابكة ومعقدة. كما يعتبر أن الدولة القومية، والرأسمالية، والاستعمار هي عناصر متداخلة. بل إنه يؤكد أن "الرأسمالية والدولة القومية أصبحتا مترابطتين إلى حد لا يمكن تصوّر إحداهما دون الأخرى". فالدولة القومية، بوصفها "أقصى أشكال السلطة، وأكمل وأشد أشكال الاحتكار تطورًا"، تمثل في نظره "نموذج الحداثة الرأسمالية". إن طبيعتها الأحادية، وسعيها لتجانس المجتمع، وخصائصها "شبه الإلهية، ومركزيّتها في استغلال الرأسمالية وعدم المساواة، تجعلها مناهضة للديمقراطية وغير مرغوبة. لذا، لا يمكن تحقيق الحقوق المشروعة للكردعبر إنشاء دولة كردية قومية، بل من خلال "نهج يضعف الحداثة الرأسمالية أو يدفعها إلى التراجع" الكونفدرالية الديمقراطية تمثل هذا النهج، فهي "مرنة، متعددة الثقافات، مناهضة للاحتكار، وتستند إلى الإجماع، وترتكز على البيئة والنسوية". إنها "تطرح نموذجًا من التشكيل السياسي، حيث يحكم المجتمع نفسه، ويمكن لجميع المجموعات المجتمعية والهويات الثقافية التعبير عن نفسها عبر الاجتماعات المحلية، والمؤتمرات العامة، والمجالس".
تقدم مناقشة أوجلان للكونفدرالية الديمقراطية رؤية مفصلة، مستفيدة من الأدبيات الموجودة حول الديمقراطية التشاركية، خاصة أفكار موراي بوكتشينحول "البلدية الليبرالية"، ولكنها تخلو من التمركز الأوروبي الإمبريقي في هذه الأدبيات. ومع ذلك، فإن كيفية تنفيذ الكونفدرالية الديمقراطية وترسيخها ضمن الدولة القومية تظل غامضة في كتابات أوجلان. فطرحه يشير إلى عملية تدريجية تستعيد فيها القوى الديمقراطية السلطة من الدولة، لكن نجاح المشروع يعتمد على توازن القوى القائم. بمعنى أن الدولة القومية التي تُسعى لتطبيق المشروع داخلها يجب أن تضعف إلى حد ما كي تصبح الكونفدرالية الديمقراطية واقعًا عمليًا مستدامًا. يمكن أن يحدث هذا الإضعاف من خلال نضالات القوى الديمقراطية للمجتمع باستخدام الموارد السياسية للدول الليبرالية الديمقراطية، التي يبدو أن أوجلان يعبر عن وجهة نظر متفائلة تجاهها. لذا، يبدو أن أوجلان يتصور مرحلة انتقالية يمكن أن يتطور فيها المشروع الكونفدرالي الديمقراطي داخل الدولة القومية كنتيجة لتسوية بين الدولة القومية وقوى "الأمة الديمقراطية". هذا هو المسار العام الذي يقترحه أوجلان لتركيا. ولكن إذا رفضت الدولة القومية التوصل إلى تسوية قانونية-دستورية مع القوى الكونفدرالية الديمقراطية، أو استمرت في التدخل العنيف في مؤسساتها الوليدة، فإن للحركة الكونفدرالية الديمقراطية الحق المشروع في الدفاع عن النفس. في الواقع، يذهب أوجلان إلى أن الكونفدرالية الديمقراطية يمكن اعتبارها "نظامًا للدفاع الذاتي عن المجتمع".
في الختام، تشكل رؤية أوجلان للديمقراطية نقدًا جذريًا للنموذج الغربي الليبرالي وللأنظمة السلطوية في الشرق الأوسط على حد سواء. إنها ديمقراطية تتأسس على المشاركة المباشرة، والتحرر الاجتماعي، والعدالة الاقتصادية، بعيدًا عن الدولة القومية التي تمثل بالنسبة له أداة للسيطرة والقمع. من هنا، فإن مشروعه لا يسعى إلى استبدال سلطة بأخرى، بل إلى خلق فضاءات مجتمعية مستقلة تستطيع أن تحكم نفسها بنفسها، مما يجعل الديمقراطية عملية مستمرة تتطور باستمرار وفق احتياجات المجتمعات.
.... نقلا عن مجلة الأمة الديمقراطية
من زوايا العالم