بث تجريبي

د. إبراهيم مرجونة يكتب: من الإمارات الكردية إلى الإدارة الذاتية.. المجتمع الكردي وتعايشه مع شعوب المنطقة

مما لاشك فيه أن دعوة زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان رفاقه في الحزب إلى ترك السلاح وحل الحزب والانخراط ضمن المجال السياسي السلمي والاندماج مع الدولة والمجتمع، هى خطوة تعكس الرؤية السياسية والموروث الثقافي والتعايش السلمي ، فالكرد منذ ظهورهم على مسرح الأحداث السياسية تعايشوا في ظروف بيئية ، وطبيعية قاسية أثرت فيهم أيمّا تأثير إذ قست عليهم الطبيعة بجبالها ،وهضابها ، ومناخها الصعب وتساقط الثلوج ،وجاءت قسوة البشر المختلفين معهم أشد من قسوة الطبيعة ، وكان عليهم أن يقبلوا التحدي ، وزاد التحدي بتنوع التركيبة السكانية والاجناس والأعراق والأيدلوجية ، ومع ذلك نجحت الإمارات الكردية التي استقلت خلال حقبة الخلافة العباسية في التعايش السلمي ومد جسر من العلاقات ذات الندية والمهارات الدبلوماسية مع كل دول الجوار.

مع تتبع تاريخ الكرد ومواضع التوطن وقيام الإمارات المستقلة يتبن أن الكرد تميزوا  بقراءة الواقع التاريخي بشكل جيد وامتلكلوا رؤية سياسية متميزة ،أن إدارة المجتمع الكردي نفسه خلال حقبة الإمارات المستقلة في ظل الخلافة العباسية تشبه إلى حد كبير مشروع الإدارة الذاتية في الوقت الراهن .

كانت بداية ظهور الكرد فى إقليم الجبال، واستوطنوا فى الأجزاء الجبلية، وانتشروا فى مناطق عديدة فى فارس، وكونوا ما يقرب من مائة حى خاص بهم وسكن بعضهم فى مناطق عديدة من الموصل وديار بكر وديار ربيعة، ومن أبرز صفاتهم القوة الحربية والشجاعة. كذلك سكن الأكراد السلاسل الجبلية العالية فى أرمينية وفى أجزاء متعددة من أذربيجان، بالإضافة إلى انتشارهم فى مناطق شتى من العراق القديم، والأهواز، إيران القديمة وغيرها من المناطق الكثيرة الأخرى، وعندما اتيحت لهم الفرصة كان لهم نظام ادارة قائم على التعايش واحترام الآخر وقبول التنوع والاختلاف وصارت لهم مساهمات حضارية ضمن الدول الإسلامية الكبيرة ، وفي الوقت الراهن تأتي فكرة الإدارة الذاتية لأوجلان لتؤكد  استمرارية الموروث السياسي والثقافي والحضاري وتضمن معيشة الكرد بثقافتهم ضمن الدول الموجودة .

كانت إحدى القواعد الإدارية المهمة التي رسخها المفكر عبد الله أوجلان هي فكرة التعايش بين الشعوب وفق فكر الأمة الديمقراطية، وهو ما ظهر جلياً في تجربة الإدارة الذاتية في التعايش بين الكرد والعرب والشركس والسريان والأرمن مع الحفاظ على هوية كل منهم، مما يفتح باب التساؤلات حول جوهر وماهية التعايش بين المكونات داخل فكر الأمة الديمقراطية.

إن حل القضية الكردية من وجهة نظر أوجلان وفق الحل الديمقراطي القائم على مفهوم الأمة الديمقراطية، يستند إلى اعتماد الحقيقة العلمية بوجود كردستان كحقيقة استمدت نفسها، من خلال نيلها هذا الاسم من منطقة جغرافية استمدت اسمها من تسمية سكانها الذين سموا بهذا الاسم من الشعوب الأخرى، وهي غير قابلة للمساومة بهدف إنكار وجود الأمة الكردية، أو التنكر لحقوقها، وقد فشلت كل المحاولات التي اتبعتها الدول القومية حين اختارت الحلول التصفوية والإبادة بأنواعها، منع هذه التسميات لتلك الجغرافيا وساكنيها من الانتشار والتداول.

وأكد فتحي محمود، عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية في كتابه "العلاقات العربية الكردية"، أن أوجلان رأى عدم اعتماد مفهوم وفق الحل الديمقراطي القائم على مفهوم الأمة الديمقراطية، الانفصال عن الدولة كخيار وحيد لا بديل عنه للحل يمكن تصوره واعتماده، والحل الديمقراطي لا يتبنى مفهوم الدولة المستقلة كشرط لا يمكن تجاوزه، ولا يميل إلى تبني الحلول الدولتية الفيدرالية أو الكونفيدرالية كتصور مسبق للدولة القومية المشيدة، ولكنه لا يرفضها كخيارات يمكن لها أن تطرح على الساحة في رحلة البحث عن الحل الديمقراطي كمقدمة ومدخل صحيح للنفاذ إلى الحل الجذري، كون الفيدرالية تفسح المجال أمام إدارة المجتمع لذاته ديمقراطيا، ويتبنى مشروع الفيدراليات و الكونفدراليات الديمقراطية للمجتمعات، ويقدمها إلى الأمام كحل جذري في القضايا جميعاً. وقد عاش الكرد في ظل الخلافة العباسية ما يشبه المشروع الكونفدرالي حيث ظهرت الإمارات الكردية المستقلة مع الاحتفاظ بالولاء والتبعية والاعتراف بشرعية الخلافة ومن أمثلة هذه الإمارات الكردية الروادية،الشدادية ،الحسنوية، العنازية،الدوستكية، المروانية...الخ.

أن مشروع أوجلان يقوم على مبدأ اعتراف الدولة بإرادة الفرد كأمة يحق لأبنائها إدارة أنفسهم بأنفسهم دون أن تتدخل الدولة في هذه القضية التي ستكون معنية فقط بالمجتمع الكردي وحده، مبيناً أن سلطات الدولة تتوقف عند حدود معينة حين تلامس إرادة الفرد في تلك الإدارة الذاتية، والحل الديمقراطي يستند إلى شرط أساسي يتطلب أن تلتزم الدولة القومية بالديمقراطية أسلوب ومبادئ وسلوك وقيم فعلاً لا قولاً، أن الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا تعد نموذجاً لمحاولة تطبيق مفهوم الأمة الديمقراطية ولذلك تعيش حالة من السلام والأمن والتعايش المشترك بين المكونات كما أن الكومينات التعاونيات تعد الخلية الصغرى والأساسية في تنظيم المجتمع وعلى هذا الأساس تشكلت الكومينات في المزارع والقرى والأحياء على اعتبار أن الكومين هو لب الإدارة الذاتية نشأت من هذه الكومينات مجالس الأحياء والمدن والمقاطعات وصولاً إلى هيكلة الإدارة الذاتية، ومن الممكن حسب رؤية أوجلان الاستفادة من التشارك والتعايش الذي ضمن بقاء وازدهار واستمرارية الحضارة الإسلامية .

فقد باتت مناطق شمال وشرق سوريا تنظم على أساس سبع إدارات ذاتية لكل منها خصوصيتها بحسب سكان منطقتها واجتمعت هذه الإدارات السبع في الستة من سبتمبر\ أيلول عام 2018 تحت سقف الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وفقا للنسق العقد الاجتماعي تتألف بنية الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا من مجلس تنفيذي ومجلس تشريعي ومجلس قضائي مفوضية عليا للانتخابات ومحكمة دستورية عليا ومجالس محلية وهناك لجنة مشكلة الآن لدراسة تطوير هذه المنظومة.

أن التعايش بين المكونات، مبيناً أنه قد أقرت القوى والأحزاب والشخصيات والفعاليات المجتمعية والمؤسسات المدنية التي أعلنت الإدارة الذاتية الديمقراطية عقداً اجتماعياً ينظم أسس العلاقة بين تكوينات المجتمع القومية الإثنية والدينية في مناطق روج آفا وشمال سوريا وشرقها حافظ من خلاله على مؤسسات الدولة الوطنية الموجودة وقامت الإدارة بتشكيل مئات المؤسسات والمجالس في القرى والأحياء والمدن علاوة على تأسيس مستوى متقدم في الحماية الذاتية عبر وحدات حماية الشعب والمرأة التي تحولت إلى قوات سوريا الديمقراطية من شعوب مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية من كرد وعرب وسريان الآشوريين.

إن مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية لا تقبل مفهوم الدولة القومية والعسكرية والدينية والمركزية في الإدارة والحكم المركزي ومنفتحة على أشكال التوافق مع تقاليد الديمقراطية وتعددية يستطيع جميع المجموعات الاجتماعية والهويات الثقافية والاثنية والوطنية أن تعبر عن ذاتها من خلال تنظيماتها واحترام الحدود السورية ومواثيق حقوق الإنسان والحفاظ على السلم الأهلي والعالمي.

لقد حققت شمال وشرق سوريا فكر أوجلان ومبادئ ميثاق العقد الاجتماعي وبناء المجتمع الديمقراطي من خلال الإدارة الذاتية الضامنة للعدالة الاجتماعية وإقامة مجتمع متمدد فقد توحدت أهداف كل مكونات مجتمع الإدارة الذاتية الديمقراطية من كرد وعرب وسريان وأرمن وشيشان وغيرهم على أساس قاعدة الوحدة في التنوع واتفقت مع إرادة بقية مكونات الشعب السوري لتكون مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية ضمن سوريا التعددية الديمقراطية كنظام سياسي وإداري للمجتمع وتجسيدا لهذه الإدارة.

ونتجول الآن في قراءة تجربة الإمارات الكردية تحت مظلة الخلافة العباسية فهى  تجربة مهمة جدا لأنها أمنت تطور الثقافة والأدب الكردي وحفظت العلوم والفنون التي برعوا فيها وأظهرت كيف أن الكرد عاشوا وفق ثقافتهم وخصوصيتهم وهُويتهم ضمن الدول الإسلامية ، والان يبحث الكرد عن ثقافتهم وهويتهم ولكنهم يتصادمون مع العقليات والذهنيات القادمة من الغرب والآحادية والتى صنعت التشزم وتهمياش الآخر،وكما يشير اوجلان دائما أننا يمكننا التشارك والتعايش وبذلك تبنى الحضارات.

وتنوعت وتعددت الانشطة الاقتصادية للإمارت الكردية وأحسن معظم حكام الكرد إدارتها مما انعكس بشكل جلي على الهيكل الإداري وساعد في نجاح الحكم الذاتي، فقد اعتمد الأكراد على الرعى بشكل أساسى ورئيسى؛ فكانوا يخرجون إلى المراعى فى الشتاء والصيف، وعمل بعضهم أيضاً فى الزراعة والصناعة والتجارة وكانت لهم هوية اقتصادية وإدارة منمازة منذ ظهورهم المؤثر على مسرح الأحداث السياسية  .

واشتهر أكراد الدويلة الروادية الكردية بأذربيجان بصناعة النسيج ، وكانت مدينة أربل أهم المراكز الرئيسية لهذه الصناعة ، وعرفوا أيضاً صناعة السجاد ، والجلود من صوف الأغنام ، بالإضافة إلي بعض الصناعات اليدوية الأخرى التي ظهرت في مدينة تبريز التي أصبحت من أهم المراكز الفنية ، والصناعية، وقد مارس أكراد الدويلة الشدادية العديد من الصناعات ، ومنها علي سبيل المثال السجاد، والأواني الفخارية  وأكثر من عمل بالصناعة هم البدو الرحل لا المزراعين ، وكان السجاد علي رأس مصنوعاتهم، اشتهرت صناعات النسيج عند أكراد الدوستكين بزخارفها الحية والنباتية هذا بجانب تميز مدينة آمد بصناعة الصوف والكتان والطيالة والثياب الموشاه والمناديل، كذلك تفوقت الدويلة الحسنوية بصناعة الخزف الجيري ، واعتبرت مدينة همذان مركزاً رئيسياً لهذه الصناعات وازدهرت الحياة الاقتصادية بداخل هذه المدينة وتحسنت أحوالها، وظهرت مهارة فنية لدي الأكراد العيارية في صناعاتهم الخزفية ، وأوانيهم الفضية، والنسيج ، وعلي الأخص المنسوجات الحريرية.

وجاءت أزهي عصور الإمارة الشدادية علي عهد اثنين من حكامها هما (محمد بن شداد الكردي) الذي حكم بلا منافس ، أو منازع وأكثر من الإصلاحات الداخلية ، واتبع سياسة خارجية متزنة ، والآخر هو : (أبو الاساور الكردي) صاحب طفرة الرواج الاقتصادي ، وانتعاش الحياة العلمية، والأدبية ، بجانب الاهتمام بشئون دويلته الداخلية ، والخارجية . وقد كانت الدويلة الحسنوية الكردية من أكثر الدويلات الكردية ارتباطاً بعلاقات مع البويهيين ، سواء أكانت هذه العلاقات سلمية ، أم حربية فكانت العلاقات لا تسير علي وتيرة واحدة ، بل كانت متغيرة علي حسب مقتضيات الأمور ، والمصالح المشتركة بين الطرفين ولكنها في المجمل احترمت الإختلاف والتنوع حتى وان كان عقائدي.

وبرز خلال الدويلة العيارية الكردية أبو الفتح محمد بن عيار الكردي الذي ووطد دعائم دويلته وقادها إلي بر الأمان ، ومارس الدبلوماسية في التعامل مع الجيران ، واختيار الخيار السلمي في أغلب الفترات من أجل المحافظة علي الأمن ، أما عن علاقة الدويلة الدوستكية – المروانية الكردية بالدولة البيزنطية ، فامتازت باتباعها سياسة متنوعة فيما بين الحرب ، والهدنة ، والتصالح ، وعقد الاتفاقيات كلاً علي حسب مقتضيات الأمور ، وما يخدم المصالح المشتركة بينهم .

كان هناك استقلال إداري نسبي رغم ارتباط بعض الإمارات الكردية بالدول الإسلامية الكبرى مثل العباسيين والسلاجقة، إلا أنها احتفظت بدرجة من الاستقلال الإداري، حيث أدارت شؤونها الداخلية بشكل مستقل ، ولم تكن هذه الإمارات مجرد كيانات قبلية، بل امتلكت أنظمة حكم متماسكة، تشمل الدواوين، الجيش، والضرائب، ما يدل على مستوى متقدم من الإدارة تجلت مظاهر التشارك والتعايش والأخذ والعطاء والمشاركة وحققت الإمارات الحرية للكرد والوحدة للعالم الإسلامي وكانت أشبه ب الإدارة الذاتية التي يتحدث عنها السيد أوجلان.

اعتمد القضاء الكردي على المزج بين الشريعة الإسلامية والأعراف القبلية، ومما عزز من فعاليته النزاعات بطرق تتماشى مع القيم السائدة واحتر جميع الثقافات والاختلافات العقائدية والعرقية على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، وكان للجيش دورًا محوريًا ، حيث كانت القوة العسكرية عنصرًا أساسيا في استقرار وحماية الإمارات لم تكن الإمارات الكردية كيانات منعزلة عن محيطها، بل حرصت على إدارة علاقاتها الخارجية بفعالية من خلال علاقات نشطة، اعتمدت هذه الدويلات على المفاوضات وعقد المعاهدات مع القوى الإقليمية المختلفة، سواء لتقوية التعاون السياسي والاقتصادي أو لضمان الاستقرار وحماية المصالح، وقد ساعد هذا النهج في تأمين موقعها، مما منحها قدرة أكبر على التكيف مع التغيرات والتحالفات الدولية في ذلك الوقت.

   والشىء اللافت للنظر بعد تأمل الماضي وفهم الحاضر واستشراف المستقبل نجد أن  التجربة الإدارية  للكرد في ظل الخلافة العباسية حققت نجاح غير مسبوق للأمة الكردية  حيث حصُلت الإمارات الكردية على الاستقلال و كان أشبة بالنموذج الفيدرالي، أو "الحكم الذاتي" في العصر الحديث حيث ضمن التعايش السلمي مع كل الأعراق والقوميات والتبعية للخلافة العباسية والاستقلال الذاتي خلال الحقبة العباسية قدم  نجاحات على الأرض برغم  التنوعات الثقافية والاجتماعية التي تزخر بها المناطق الواقعة تحت سيطرة الإداراة الذاتية للكرد، وقدم الكرد نماذج يحتذى بها في الفكر والأدب والثقافة والعمارة والفنون والسياسة، فكان الكرد أداة بناء ولم يكونوا ابداً معول هدم.

وفي المجمل يمكن القول بأن الإمارات الكردية في العصر العباسي تمتعت بالإدارة الذاتية ، لما كانت  الإدارة الذاتية  قادرة على الصمود في ظل التحديات العديدة والتنوع والتبايين الفكري والثقافي والأيديولجي، ، أما في العصر الحالي تبقى  تجربة نجاح الإدارة الذاتية مرهونة بالعديد من العوامل الداخلية  مثل قدرة الإدارة على توليد الموارد الذاتية، واستمرار الحفاظ على التوازن بين المكونات الثقافية المختلفة في إدارة شؤون المجتمع، والخارجية مثل قدرتها على استيعاب التحالفات الجديدة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، والضغوط الناجمة عن التحولات في بنية النظام العالمي ، والتغيير في أولويات القوى العالمية بالمنطقة ، والاستفادة من التشارك والتعايش ، لذا لو اتيح المناخ والبيئة المناسبة للإدارة الذاتية للكرد دون عرقلة محلية أو إقليمية أو دولية سيكون لها نجاحات غير مسبوقة وتسطر تاريخ جديد لاستكمال ما مضى من تعايش سلمي تحت شعار تنوع لا اختلاف،وإذا اختلفنا لا نفترق.

نقلاً عن مجلة الأمة الديمقراطية

قد يهمك