شكّل موضوع طبيعة نظام الحكم في سوريا، منذ نشأتها في العصر الحديث، مسارًا للجدل والخلاف، وأحيانًا للاتفاق، ولا يزال هذا الجدل مستمرًا.
وربما يعود ذلك إلى طبيعة وخصائص المجتمع السوري القائم على التعددية والتنوع من جهة، ومن جهة أخرى إلى طبيعة الحدود الاصطناعية المفروضة على البلاد رغماً عن إرادة شعوبها.
لقد تنبّه الأجداد السوريون الأوائل إلى أهمية واستراتيجية هذا التنوع، واعتبروه عنصر قوة واتحاد، لا تهديدًا.
لذا، كان طرح نظام الحكم على أسس لامركزية ضرورةً، لا ترفًا سياسيًا.
وهذا ما دفع الملك فيصل، عام 1920، إلى طرح الفيدرالية كنظام حكم.
وهو طرح لم يكن مستجدًا حينها، إذ سبق أن قدّم حزب الاتحاد السوري، عام 1919، تصورًا للفيدرالية كخارطة طريق لمستقبل سوريا.
في ذلك الوقت، لم يكن طرح اللامركزية مثار أزمة أو مشكلة بالنسبة للسوريين، لأن سوريا، على غرار دول المنطقة الأخرى التي كانت خاضعة للاحتلال العثماني، كانت تتمتع بشكل من أشكال الإدارة المحلية (الولايات).
وإن لم يكن مصطلح اللامركزية مستخدمًا آنذاك بمفهومه الحديث، إلا أن التطبيق العملي له كان قائمًا إلى حدٍّ ما. وربما يعود ذلك أيضًا إلى أن مفهوم الدولة القومية لم يكن قد تبلور بعد في المنطقة.
بالتالي، فإن ارتباط مفهوم اللامركزية بسوريا ليس جديدًا. ففي كل مرة تواجه فيها سوريا، أو تواجه أنظمتها، أزمات ومشكلات، يُعاد طرح اللامركزية كحلٍّ ممكن.
ورغم ذلك، لم تعش سوريا حتى اليوم تجربة حقيقية للامركزية بمعناها الصحيح؛ فغالبًا ما كانت تجاربها أقرب إلى عمليات قيصرية فاشلة، باستثناء بعض المحاولات المحدودة على مستوى الإدارات المحلية، أو بعض المؤسسات والشركات التي أثبتت نجاعتها.
وبعد قرن من الزمن، يُعاد اليوم طرح اللامركزية كأحد الخيارات المطروحة لحوكمة البلاد، وضمان وحدتها واتحادها.
وربما جاء هذا الطرح بعد الحراك الثوري السوري، حين وجدت حكومة البعث نفسها مضطرة لطرح القانون 107، على أساس إدارات محلية، وفق دستور 2012.
إلا أن هذا القانون، كما في التجارب السابقة، لم يُطبّق على أرض الواقع.
وقد أدّى فشل تطبيق هذا النموذج إلى استمرار الأزمة السورية لأكثر من أربعة عشر عامًا، وانهيار منظومة البعث. وفي ظل الحكومة الانتقالية، أدّت السياسات المتّبعة للعودة إلى مركزية الدولة وتجميع الصلاحيات بيد رئيس الحكومة الانتقالية، إلى زيادة الهوّة بين الأقاليم والمركز، وانعدام الثقة بين المكونات والسلطة، وتمسّك كل طرف بمكتسباته. ولم تعد هناك سلطة تعلو على سلطة العنف والسلاح، إذ سعت السلطة إلى إعادة فرض هيمنتها على بعض الأقاليم عبر ارتكاب المجازر والإبادات.
وكانت النتيجة توسّع المطالبات الشعبية، وكذلك دعوات من قبل النخب الفكرية والثقافية، بضرورة اعتماد اللامركزية في إدارة الدولة.
وقد سبق أن طرح مجلس سوريا الديمقراطية نظام اللامركزية كصيغة حوكمة لإدارة سوريا والخروج من أزمتها. وقد استطاع المجلس تجسيد تجربته كواقع معاش على مدار عقد من الزمن، من خلال تأسيس الإدارة الذاتية الديمقراطية لأقاليم شمال وشرق سوريا.
لقد عملت السلطة الانتقالية على محاربة اللامركزية، من خلال التضليل الإعلامي، وتقديم تصوّرات ذهنية مشوّهة عن حقيقتها وجوهرها.
ومع تصاعد الأحداث، لا سيما بعد مجازر الساحل والسويداء، ومع تنامي المطالبات الداخلية والشروط الدولية، وجدت السلطة نفسها مضطرة للعودة إلى طرح القانون 107، وهو ما يُعد تناقضًا واضحًا في سياساتها، خصوصًا بعد أن ألغت دستور 2012، الذي يتضمّن هذا القانون، وطرحت بدلًا منه الإعلان الدستوري المؤقت، مما جعل القانون 107 بلا أي أساس قانوني فعّال لذا يبقى هذا القانون فرصة ضائعة.
وقد دفع هذا التناقض المبعوث الأمريكي توم بارك، المعروف بمواقفه الداعمة لمركزية الدولة، إلى تغيير موقفه، حيث أقرّ بأن خيار المركزية لم يعد مقبولًا، وأنه لا بدّ من التوجه نحو اللامركزية كحل واقعي ومستقبلي.
في ظل حالة التشرذم، وانعدام الثقة بين بعض مكونات الشعب السوري والحكومة الانتقالية، على خلفية التحريض، والتضليل الإعلامي، والمجازر، والإبادات المرتكبة، وفي ظل حالة التقسيم، وتعدد أنظمة الحكم، والتدخلات الخارجية؛ يبقى الحل الواقعي هو رسم خارطة طريق لمستقبل سوريا، تقوم على استعادة الثقة بين المكونات، وضمان حقوق الجميع على كافة المستويات، وحلّ أزمة الهويات، والحفاظ على الوحدة الوطنية، وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية.
كل ذلك لا يمكن أن يتحقّق إلا عبر عقد حوار سوري – سوري جاد وحقيقي، يتوَّج باختيار نظام حكم لامركزي تعددي، يتلاءم مع طبيعة وخصوصية المجتمع السوري.
من زوايا العالم
من زوايا العالم
منبر الرأي
منبر الرأي