بث تجريبي

محمد جمعة آلا يكتب: الفيدرالية الانفصالية والوحدة الشوفينية أو البحث عن المواطنة المفقودة

حسب نظرية ديفيد هيوم عن مفهوم الاستدعاءات الذهنية فإنه كلما ذٌكر لنا مصطلح الفيدرالية أو اللا مركزية استُدعيت معها تهمة الانفصال، وكلما ذُكر مفهوم الدولة المركزية انطوت بين ثناياه وعد الاستبداد والشوفينية. ورغم أن البشرية عاشت أكثر عمرها داخل أنظمة خصوصياتية سُميت حديثاً بالفيدرالية أو اللا مركزية، وهنا نذكر الخصوصية بالمعنى الذي نبهنا إليه الفيلسوف الألماني هايدجر أي باعتباره صفة أنثروبولوجية لا يميز فقط البشر عن غيرهم بل دليلاً على رقي الحالة الإنسانية وقدرتها القصوى في التعبير عن أفقها، من حيث أن عدَ هايدجر الخصوصية تحريرا من سلطة " الهٌم" أي الآخر.

ولو أردنا تنقيح مصطلح الخصوصية من سلطة الفلسفة وإعطائها دفعة سوسيولوجية فستصبح هنا بمثابة اللا مركزية؛ أي تصبح اللا مركزية انتقاداً لمفهوم المجتمع المفتوح بالشكل الذي طرحه كارل بوبر في كتابه. فالمجتمع المفتوح يعني تنازلاً عن دفاعاته الوجودية، وهذا لا يعني أننا نمهد لمفاهيم المجتمع المغلق، بل ندعي تأسيساً برحماتياً لما يمكن دعوته بالمجتمع الخصوصياتي.

وتأكيداً على كلامنا فلا تزال منظومة الدولة محافظة على كيانها، وادعائها الديمقراطية، وهي تفعل ذلك  من حيث أنها تستلف من نظام اللا مركزية أكبر براهينها. إن نظام اللا مركزية هو أخر شكل من أشكال القدرة على الابتعاد عن ظاهرة الدولة العنفية.

والسؤال لماذا لم نستطع في الشرق الأوسط أن نرد عن مطالبي اللا مركزية تهمة الانفصال؟، والسؤال الأهم هل هذا النقاش – أي الانفصال – كان مطروحاً على الساحة الفكرية والسياسية لدى الغرب؟، فمثلاً عندما أرادت دول مثل ألمانيا وسويسرا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية أن تصبغ نفسها بنظام الفيدرالية، هل عانوا من تهمة الانفصال؟، يبدو أن مفهوم ممارسة الخصوصية كانت تدخل تحت سقف البداهة الأنثروبولوجية، ولذلك كان نظاماً سوسيولوجياً منتشراً في العالم القديم، لم يفكر بها إلا على حدود القرن الخامس عشر في الغرب ونهاية القرن الثامن عشر في الشرق. بمعنى أنه من طبيعة البشر أن تعيش ضمن أفق إدارة خصوصيتها نفسها بنفسها، ولكن ما حدث في القرن الخامس عشر لدى الغرب والثامن عشر في الشرق هو تفتت مفهوم الإمبراطورية؛ بحيث باتت الساحة فارغة لظهور أنظمة أخرى، فكانت الدولة القومية هي التي ملأت هذا الفراغ.

وما كانت تحتاج إليه منظومة الدولة في أسّها الميتا فيزيقي هو عدة أركان:

أولاً: السلطة، وهو ما ظهر مع مفهوم المركزية السيادية والتي طرحها توماس هوبز.

ثانياً: العداوة أي القدرة على إنتاج عداوةٍ حتى لو كانت متخيلة لتغذية الركن الأول، وهو ما أرّخه ونقحه الألماني كارل سميث.

ثالثاً: تغذية الشعور المتخيل القادر على إعطاء الجماعة تكورها وتكتلها، وظهور مفهوم الذات المركزية والموضوع المباح.

أدرك فلاسفة الغرب أن الليفياثان الهوبزي  سينتهي بابتلاع الجميع، وعلى ذلك نهض فلاسفة الغرب للبحث عن نمطٍ رادعٍ لنظرية الدولة القومية، وهو إنتاج الوطن وتغذية الشعور بالمواطنة، بحيث تصبح ندّاً لجهاز الدولة.

ولتثبيت ذلك سياسياً أعاد الغرب التجربة اليونانية أي دولة المدينة وخاصة الجانب الفلسفي والأخلاقي، بمعنى أكثر دقة فقد كان الاشتغال الغربي من روسو إلى هيجل على مفهوم الوطن والمواطنة في حقيقته اشتغالاً أخلاقياً، أي أن المواطن هو تقدمة فلسفية – أخلاقية، وليست ذات بعد سياسي فقط. في مقابل هذا التفكير، عمد مفكروا الشرق من "الطهطاوي والكواكبي إلى عفلق والأرسوزي" على استيراد التجربة الغربية كنتيجة نهائية وليس كاشتغال ديالكتيكي فكانوا ناقلين لا متنورين، أي أن الشرق لم يخض تجربة التنوير الخاصة به، بمعنى أنهم  لم  يكلفوا أنفسهم عناء محاكمة ظاهرة الدولة والتاريخ كما فعله فلاسفة الغرب، بل اعتبروا أن الدولة القومية المركزية هي التعبير الأسمى عن روح الشعب، حيث تضافرت عدة عوامل لظهور أبرز أشكال  الدولة القومية المركزية:

- وجود العدو الإسرائيلي المصطنع.

– تحديد السلطة المركزية ذات الهوية الواحدة بحجة العامل الأول.

- تغذية هذه الهوية من خلال استعادة التاريخ والاشتغال المخيالي عليه.

لكن لماذا حقق الغرب نجاحه في إنتاج نماذج ديمقراطية لا مركزية وفشلنا نحن؟، أو بعبارة أخرى لماذا عُدت الفيدرالية عند الغرب بمثابة مطلب حيوي لبناء الدولة ونحن لا نزال نخوض نقاش الانفصال والانقسام في كل مطلب سياسي يرى في اللا مركزية الحل الوحيد؟، المشكل هو أن النقاش المخاض حول الفيدرالية أو الوحدة سبقه عند الغرب حوار آخر كان بمثابة المدخل لتأمين نماذج الفيدرالية، بمعنى فإن مطلب الفيدرالية أو الوحدة هو نقاشٌ بعدي لمفهوم قبلي سمّي بإنشاء دولة المواطنة؛ فالغرب عندما خاض هذا النقاش السياسي إنما عدّوا أنفسهم بمثابة مواطنين وليسوا أعداءً أي باعتبارهم أصدقاء متشاركين في حقوقهم، وفي كيفية اختيار الوجهة المناسبة للعيش.

أما نحن فلا نزال نخوض هذا النقاش باعتبارنا مُلّة، ولهذا فنحن لا نتحاور إلا تحت سقف العداوة وتهمة الانفصال وشوفينية الوحدة، بمعنى أن هناك إطار مدني يحمي هذا الديالكتيك، لكن لم يتوفر عليه الإنسان الشرقي، والتي هي بمثابة عتبة.

يطرح علينا "أوجلان" وقبله الفيلسوف الفرنسي جاستون باشلار مفهوم العتبة، وسيقف كليهما على أن العتبة تعني القبلية أو لنقل المدخل، وتحمل معها قطيعة مع الماضي الذي لم يعد يلائم الحاضر. وبالتالي تصبح عتبة المواطنة هي الشكل الوحيد للمرور لإنتاج جميع أشكال اللا مركزية، ومن غير هذه العتبة فلن نستطيع أن نرد عن أنفسنا تهمة الانفصال. وباعتبار أن الشرق الأوسط مفلس أمام إنتاج الحلول فإن مشروع الإدارة الذاتية بالمعنى السوسيولوجي هو بمثابة العتبة الوحيدة التي نستطيع أن نؤسس داخلها ما يمكن تسميته بإنتاج المواطنة الحرة، والتي تعد التمهيد الميتافيزيقي لإنتاج سوريا ديمقراطية تعددية.

وإذا لم نتجرأ على خوض التنوير الشرقي الخاص بنا والذي يعد الحل الوحيد؛ فإننا لن نحرر مصيرنا من أن ننقلب، إما إلى مُستعمرِين او مُستعمَرين . إن كل دولة أو نظام ذات هوية واحدة مهما كانت بريئة وأخلاقية لن تستطيع أن ترد عن نفسها تهمة الاستعمار. إن الاستعمار لا يكون خارجيا فقط، بل هناك نمط من الكولونيالية ذات توجه صامت يؤسسُ وينمو داخلياً كلما اقترب من اتخاذ هوية مركزية، والتي يعد الانتماء إلى هذه الهوية صك للمعايشة والتي ترى أن لها الحق الوحيد في أن تمنحك نمط الوجود في العالم.

 

قد يهمك