بث تجريبي

الحداثة الديمقراطية بديل للتحرر المجتمعي

مع تنامي الأزمات التي تعيشها البشرية في ظل لهيب الاستغلال الرأسمالي، أضحت إشكالية “الحداثة” من أبرز القضايا التي شغلت الفكر السياسي والفلسفي في القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، وفي هذا السياق، يتصدى مفكر بقيمة عبد الله أوجلان لإشكالات الحداثة وما بعدها عبر قراءة نقدية عميقة ومغايرة خصوصًا في بُعدها الرأسمالي، حيث اعتبرها أداة للهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية، فرغم ارتباط الحداثة في المخيال العام بالتقدم العلمي، والنهضة الصناعية، وتطوير المؤسسات السياسية، إلا أن هذا الوجه الذي يبدو مضيئاً للحداثة لم يَحجب آثارها السلبية على الشعوب المهمشة والكيانات الضعيفة، حيث ارتبطت الحداثة أيضًا بالاستعمار، وتفكيك البنى التقليدية، وهيمنة الدولة القومية. في هذا السياق تبرز قراءته النقدية بشأن الحداثة؛ إذ يعتبرها مشروعًا رأسماليًا احتكاريًا أكثر منه مسارًا تحرريًا، ولم يكتفِ بتشخيص سلبيات الحداثة، بل اقترح “الحداثة الديمقراطية” كبديلٍ حداثي أكثر تقدماً بل إنه ذات طبيعة إنسانية يسعى من خلالها لتأسيس نظام اجتماعي وسياسي بديل قائم على الحرية والمساواة والتعددية.

مفهوم المفكر عبد الله أوجلان للحداثة ورؤيته النقدية

كركيزةٍ مفاهيمية تأسَّست عليها رؤيته النقدية، يرى المفكر أوجلان بأن الحداثة ليست مجرد تقدم تقني أو علمي، بل هي نظام شامل يتضمن بنية اقتصادية وسياسية واجتماعية ارتبطت ببروز الرأسمالية التي ارتبطت بصعود الدولة القومية والرأسمالية الذهنية، التي أفرزت علاقات استغلالية وهيمنة على الشعوب المهمشة، وعلى هذا يعتبر أن الحداثة بصيغتها السائدة تعمّق التفاوتات الطبقية وتؤدي إلى تهميش كافة الشعوب غير المهيمنة على السلطة في المجتمع، ولذلك لا يتعامل مع الحداثة كمسارٍ عالمي محايد، وإنما كأداة هيمنة حضارية تفرض قيمًا معينة وتقصي أنماطًا أخرى من العيش والمعرفة، لاسيما وأن مفهوم الحداثة يقوم على ثلاثة ركائز أساسية أولها الدولة القومية اعتبرها أداة لضبط المجتمع وتقييد التعددية الثقافية واللغوية، ووسيلة لفرض هوية واحدة على حساب باقي الشعوب، وثانيها هو النظام الرأسمالي الذي يقوم على الاحتكار الاقتصادي، وتراكم رأس المال بيد فئات محدودة، ما يؤدي إلى تعميق الفوارق الاجتماعية، وتهميش الفئات الضعيفة، وثالثها هو العقل الصارم، حيث يرى أن الحداثة الغربية تبنّت عقلانية مادية صلبة، أقصت الأبعاد الأخلاقية والروحية، وكرّست ثقافة استهلاكية. ومن خلال هذه الركائز، يعتقد المفكر أوجلان أن الحداثة الرأسمالية أنتجت مجتمعًا استهلاكيًا هشًا، محكومًا بالقوة، ومفتقرًا إلى العدالة الاجتماعية، كما أدت إلى تفكك البنى الاجتماعية التقليدية وإضعاف الروابط الأسرية والثقافية.

الحداثة الديمقراطية كبديلٍ مُلهم

في مقابل نقده للحداثة الرأسمالية، طرح المفكر عبد الله أوجلان مشروع “الحداثة الديمقراطية”، والذي يمثل محورًا رئيسيًا في كتاباته، حيث تقوم الحداثة الديمقراطية على الكونفدرالية الديمقراطية التي تتمكن خلالها المجتمعات المحلية من تنظيم نفسها ذاتيًا دون الحاجة إلى سلطة مركزية قاهرة، وفي هذا الإطار يتمركز تحرير المرأة باعتبار أن اضطهادها هو أول أشكال العبودية في التاريخ، وأن تحررها شرط لأي تحرر مجتمعي، كما يؤكد على البُعد البيئي كأحد الركائز الأساسية الرافضة للنموذج الصناعي الجائر الذي يدمّر البيئة ويستنزف الموارد، ثم يصل هذا المفهوم ذروة نضجه مع تبني مفهوم التعددية الثقافية والسياسية، حيث يُنظر للمجتمع بوصفه نسيجًا متنوعًا لا يمكن اختزاله في هوية واحدة. بعبارة أخرى، يعكس هذا التصور محاولة لإعادة تعريف الحداثة ليس كقوة مهيمنة، بل كعملية تحرر جماعي، تعطي الأولوية للديمقراطية المباشرة والعدالة الاجتماعية.

الحداثة الديمقراطية من الفكرة إلى الواقع

لم يقتصر مفهوم الحداثة الديمقراطية على مستوى التنظير الفلسفي أو النقد الفكري، بل وجد طريقه إلى التجربة السياسية والاجتماعية في “روج آفا ـ شمال وشرق سوريا”، حيث ولدت “الإدارة الذاتية” كنموذجٍ واقعي لتطبيق مبادئ “الحداثة الديمقراطية”؛ لاسيما وإن هذه المنطقة قد عانت طويلًا من التهميش الذي جعل منها تربة خصبة للانفتاح على الحداثة الديمقراطية كمشروع للتعايش المغاير للنموذج الرأسمالي والدولة القومية. ففي هذا النموذج، حظيت المرأة بمكانة محورية حيث فُرضت قاعدة الرئاسة المشتركة في جميع المؤسسات السياسية والاجتماعية، كما مُنحت المرأة حق تكوين تنظيمات مستقلة تعبر عن قضاياها. واقتصاديًا، طُبّق في إطار هذا النموذج نموذج الاقتصاد التعاوني عبر إنشاء الجمعيات التعاونية والمشاريع الإنتاجية المشتركة، الأمر الذي استند إلى مبادئ العدالة الاجتماعية، وتقليص الفوارق الطبقية، والحد من هيمنة رأس المال الفردي، بالإضافة إلى مراعاة البعد البيئي في أي مشروع اقتصادي.

بشكلٍ عام، لا تقتصر رؤية المفكر عبد الله أوجلان للحداثة على مجرد النقد الراديكالي للنموذج الرأسمالي، بل تجاوز ذلك إلى محاولة تأسيس مشروع بديل متكامل، يسعى إلى إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين الفرد والجماعة، في ضوء رؤية أكثر إنسانية وعدالة، حيث يرى إن الحداثة بصيغتها الرأسمالية السائدة ليست سوى منظومة قمعية قائمة على الدولة القومية والاحتكار الاقتصادي والعقلانية الصارمة، ما جعلها أداة لتكريس الهيمنة وتفكيك الروابط الاجتماعية. غير أنه لم يكتفِ بالنقد السلبي، بل قدّم “الحداثة الديمقراطية” كتصور بديل ينطلق من مبادئ التشاركية المجتمعية، والمساواة بين الجنسين، والاعتراف بالتعددية الثقافية واللغوية، إلى جانب دمج البعد البيئي كعنصرٍ جوهري في أي مشروع حضاري. هذا البديل يجعل من الديمقراطية ممارسة يومية تُبنى من القاعدة إلى القمة، لا مجرد آلية شكلية مرتبطة بالدولة المركزية.

وبذلك فقد نجح المفكر عبد الله أوجلان في بلورة خطاب نقدي فريد يزاوج بين التجربة الكردية المحلية بما تحمله من معاناة تاريخية ورغبة في التحرر، وبين البعد الإنساني الكوني الذي يتطلع إلى العدالة والحرية لشعوب العالم كافة، ولعلنا نجد في هذا المزج بين المحلي والشمولي وبين الخصوصية القومية والرؤية الإنسانية، ما يجعله واحدًا من أبرز المفكرين النقديين في قضايا الحداثة والتحرر في العصر المعاصر، وفتح الباب أمام إمكانية التفكير في حداثة بديلة أكثر شمولية وإنصافًا للشعوب المهمشة.

.... نقلاً عن صحيفة روناهي

قد يهمك