بث تجريبي

مقاومة الفكر والجسد دون سلاح.. ملحمة سجن آمد

سجّل التاريخ البشري أشكالًا متعددة من المقاومة، ولكن غالبًا ما ارتبطت المقاومة في أذهان الناس بالسلاح والنار. قلّ من يتوقف عند تلك اللحظات التي لا يكون فيها السلاح سوى الفكر، ولا تكون الأجساد إلا الحصن الأخير أمام جبروت الطغاة.

في قلب هذا السياق، نُقشت واحدة من أعظم ملاحم الكفاح الكردي في سجن آمد، حيث خاض أربعة أبطال تجربة مقاومة فريدة في تاريخ الشعوب: كمال بير، محمد خيري دورموش، علي جيجك، وعاكف يلماز. لم يحملوا بندقية، ولم يواجهوا العدو في ساحات المعارك، لكنهم صنعوا من زنازين السجن منبرًا للكرامة، ومن أجسادهم الخاوية جدارًا يتصدّى لأبشع أدوات القمع التركي.

كان المجتمع حينها قد وصل إلى مرحلة من اليأس والانهزام. لم يعد الناس يَرَون في الكفاح وسيلةً للحرية، بل اعتقدوا أن لا سبيل للعيش إلا من خلال الذوبان والانفصال عن حقيقتهم القومية والعرقية. بات من العيب أن يقول الإنسان “أنا كردي”، فالقمع وصل حتى إلى الوجدان.

لكن مع ولادة حزب العمال الكردستاني، وظهور فكر وفلسفة القائد عبد الله أوجلان، دبَّ القلق في أوصال الفاشية التركية. شعرت أن هناك فكرًا جديدًا، متجذرًا، يهدد كل ما بنته من سياسات الصهر والتذويب. شعرت بالخطر الحقيقي: أن يتحول هذا الشعب المقهور إلى شعب مقاوم، إلى أبطال لا ينهارون أمام آلة القمع بل يحطمونها بالإرادة.

حينها، شدّدت الدولة التركية تدابيرها، واتجهت إلى أقسى أنواع الإبادة وأساليب الظلم الوحشية. في الوقت الذي اختارت فيه غالبية الحركات اليسارية الهرب إلى أوروبا، وانقطعت عن شعبها، قرّر القائد عبد الله أوجلان أن تكون ساحة عمله هي الشرق الأوسط، وأن يتم إعداد الكوادر للعودة إلى الوطن، لا للهروب منه. لكن؛ الفاشية التركية لم تقف مكتوفة الأيدي. وبعد انقلابها العسكري، كان هدفها الرئيسي هو تصفية الحزب، فانطلقت بعمليات واسعة من التدمير والتهجير والاعتقال التعسفي. في هذه الحملة الوحشية، كان من بين المعتقلين أولئك الرفاق الأربعة الذين لا يملكون من القوة سوى الفكر، ومن العُدة سوى الجسد، ومن السلاح سوى الإيمان.

مارست الدولة التركية بحقهم أبشع أشكال التعذيب النفسي والجسدي، ظنًا منها أنها ستحطم إرادتهم، وتجبرهم على الاستسلام، لكنهم لم يستسلموا. وعندما فُقد صوتهم، وعلت أصوات الجلادين، قرروا أن يُسمِعوا العالم صرختهم الأبدية عبر صيام حتى الموت.

لم يكن ذلك انتحارًا، بل قرارًا واعيًا، نابعًا من إيمان عميق. كانت تلك الخطوة إعلانًا صريحًا: “إذا لم نملك قوة السلاح، نملك قوة الفكر، وإذا خُنق صوتنا، فجسدنا سيتحول إلى صرخة مدوية في وجه الظلم”.

بهذه العملية، أثبتوا للشعب الكردي أولًا، وللفاشية التركية ثانيًا، أن المقاومة ليست حكرًا على من يملكون البندقية، بل قد يولد الانتصار من رحم الألم، ومن جسد يذوي جوعًا لكنه لا ينحني.

استُشهِد الرفاق الأربعة، لكنهم لم يذهبوا إلى الموت بل إلى الخلود، لقد زرعوا بذور المقاومة في وجدان كل كردي، فأنبتت تلك البذور مقاتلين ومقاتلات، وحملت أجيالٌ راية النضال بعدهم، ومضت في دربهم، تواجه الظلم بكل أشكاله، وتحيا بتلك الإرادة التي لا تُكسر.

عاش هؤلاء الأبطال في زمن الحرب بكرامة، ويعيش رفاقهم اليوم في زمن السلام بعزّة، وما زالت أرواحهم تحرس القضية، كما تحرس الجبال والمخيمات وأحلام الشعوب المقهورة.

المجد والخلود لشهداء الحرية. أولئك الذين حولوا الموت إلى حياة لا تتوقف، إلى شعار حياتي مستدام وثقافة حياة تتجسد في كل آنٍ وحين، إلى أسلوب حياة يلخصه قول واحد، لا قول قبله ولا بعده.. “المقاومة حياة”.

....... نقلا عن صحيفة روناهي

قد يهمك