في كتاب جديد بعنوان “نظام إمرالي” قدمه فخر الدين إسماعيل للمكتبة العربية عبر دار نفرتيتي بالقاهرة نتعرف بشفافية ووضوح وبسياقات منطقية وإثباتات دامغة، وبما لا يدع مجالًا للشك أو التأويل، على أحد جوانب الهيمنة الغربية على منطقة الشرق الأوسط، بل وكل العالم. من خلال منظومة السجون والمعتقلات التي أسسها ويدعمها ويمولها الغرب حول العالم لاحتجاز مناوئيه ومشاكسيه، ويقيم عليها سدنة وجلادين إجراء من البيئة نفسها. يتطوعون كوكلاء وخفراء مقابل لقب سياسي رخيص أو منصب حكومي أجوف.
قناع زائف
وفي ثنايا كتاب فخرالدين إسماعيل “القيّم” نتعرف على وجه من أوجه للحضارة الغربية التي مازالت تطبق أقسى أنظمة التسلط والاستبداد والفساد والإفساد على كل شعوب العالم. وخصوصًا شعوب الشرق الأوسط، بحكم تواجد هذه الشعوب القدري والتاريخي في قرب الأرض المقدسة وثرواتها المتجددة التي لا تنضب. الثروات التي تريّل عليها أجشع النفوس في الغرب المتوحش والشرق المتمحلس، وتعتاش عليها أعتى منظوماته العسكرية والسياسية والاقتصادية، وبدونها تتحول مجتمعاته ودوله إلى زرايب تفتك بها الوحشية والأنانية.
إن الجوانب المرعبة للتقدم التقني الذي يسمح بإنهاء حياة شخص بعينه بمقذوف متفجر داخل مخدعه الأمين أو مخبئه الحصين أو الابتكارات الحيوية “المدهشة” التي تجاوزت حدود تخليق الفيروسات الفتاكة إلى حدود إطلاقها على متن طائرات نانومترية مسيّرة عن بعد مع خاصية المتابعة المباشرة صوتًا وصورة لتحييد شخص أو مجموعة أشخاص.. يجب أن لا تنسينا الأساليب التقليدية من سجون ومعتقلات كانت تنتمي إلى أقدم العصور والحقب، ومازالت إلى يومنا هذا كما هي بأنساقها العمرانية والإدارية، تقمع وتحيّد المعارضين والثائرين.
كلنا في الهمِّ شرق
رغم ما تتمتع به شكليًا وظاهريًا من استقلال سياسي؛ فلا مراء أن بلاد “الشرق الحزين” مازالت أسيرة الهيمنة الغربية التي رحلت جحافلها وغارت أساطيلها قبل سبعين عامًا، لكنها مازالت مخلفة فيها استعمارها وزارعة عندها سطوتها السياسية والأمنية بصور شتى. وإنْ كنا كشعوب لا نستشعر بوضوح هذه الهيمنة والتسلط على مقدرات حيواتنا الخاصة والعامة؛ إلا أن النخبة الحاكمة تستشعر ذلك بوضوح وبألم، وتعمل لكل كلمة تصدر عنها أو تسمح بها خارج إطار الولاء والتبعية ألف حساب وحساب. لذلك؛ نراها تسير في ركب النظام الدولي على حساب مصلحة شعوبها وحاضرها ومستقبلها، طالبة رضا المهيمن الغربي، ورضا قاعدته المتقدمة إسرائيل.
ووصل الحال إلى أن بعض حكومات المنطقة تحولت إلى حلقة أصيلة في سلسلة التحكم والسيطرة الغربية. وإلى وحدة أساسية في منظومة أمن النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لصالحها وصالح حلفائها. هذا ليس كلامًا إنشائيًا أو سياقًا خطابيًا شعبويًا تحريضيًا، فقد مضى عهد الخطاباتية والشعاراتية مع انهيار منظومة المناوءة الشرقية، وهو مصارحة ومكاشفة بواقع مزرٍ ومخزٍ نكتوي بصِهاره ونختنق بأوْضاره.
محطة إمرالي
مع تطور نضال حزب العمال الكردستاني في تركيا لأجل تحصيل حقوق الشعب الكردي في تركيا ثمانينيات القرن الماضي، بعد سكون نسبي دام لنصف قرن. ومنذ أن سطع اسم القائد عبد الله أوجلان كقائد مناضل من طبقة هوتشي منه وغيفارا ومانديلا، الذين ناصبوا الهيمنة الغربية العداء ورفضوا استغلالها وجشعها، وتصدوا لبطشها وهمجيتها، وقاوموا استعمارها وتسلطها وأدواتها.. استشعر الغرب خطورة الرجل ورفاقه، كخطورة الحركة والحركات المشابهة على امتداد جغرافيا العالم من البحر الأصفر وخليج سيام جنوب شرق آسيا إلى جبال ماراباس والإنديز في أمريكا اللاتينية، مرورًا بعربستان وكردستان وفلسطين في الشرق الأوسط.
وما كانت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الأوروبيين لتسمح لهذه القوى بالثورة أو الاستمرار. لذلك؛ نفذت وشركاؤها أكبر عملية اختطاف في تاريخها الأمني والمخابراتي وسلمت القائد عبد الله أوجلان للحكومة التركية، حكومة سليمان ديميريل وبولنت أجاويد. الحكومة التي كانت تبحث في خضم تهافتها السياسي والاقتصادي عن مكسب رمزي، فقبلت الهدية الأمريكية على مضض، وعملت على الاستفادة منها عساها تضع حدّاً لنضال الشعب الكردي المتجسد بنضال حزب العمال الكردستاني وتضحيات كوادره. وبالفعل نجح الأمر إلى حد ما في خفض التصعيد وتغليب لغة التفاوض والمساومة وقبول تدخلات الوسطاء.
الحقائق تتكشف
هذا جزء يسير مما يميط كتاب “نظام إميرالي” اللثام عنه ويشرحه ويوضحه ويدلل عليه من تفاصيل الحياة في إمرالي، وسبل التعايش معها ومقاومتها التي ابتكرها القائد عبد الله أوجلان. إنه قنبلة صوتية يلقيها فخر الدين إسماعيل في سكون الرتابة المعهودة والمفروضة لإيقاظ ملايين المضروب على آذانهم في كهوف التغييب والتجهيل سنين عدة، وهو “نكشة” تستفزّ الخانعين الخاضعين كما يستفز المنكش التربة فتنتفض خُضرةً وثمرًا.
سوريا كجزء من منظومة إمرالي
كسوريين كنا ومازلنا جزءًا من هذه المنظومة الدولية التابعة أو المهادنة أو الخاضعة أو الخانعة، ولم يكن حافظ أسد إلا ليكون منفذًا للدور المطلوب منه في قمع وإخضاع السوريين، وكتم أنفاسهم، ونهب ثرواتهم بانتظام وتحويلها خارج البلد. وبالنسبة لإمرالي؛ فحافظ الأسد وإن كان سامحًا لحزب العمال الكردستاني بالتحرك والنشاط في سوريا ولبنان لأغراض سوريّة بحتة تتمثل في الضغط على تركيا؛ فذلك ما كان ليكون إلا بإيعاز من قوى خارجية أيضًا تتمثل بالمعسكر الشرقي أيامئذ.
ومع انهيار المعسكر وتفكك الاتحاد السوفييتي لم يعد بمقدور سوريا الوفاء بالتزامتها وتعهداتها للقائد عبد الله أوجلان وحزب العمال الكردستاني. لتجد دمشق نفسها في مواجهة مباشرة وصارمة مع أنقرة فيما تحرك الجيش التركي على طول الحدود السورية التركية مهددًا بالاجتياح وإسقاط نظام الأسد. ويكفي أول بيان شكر ألقاه جورج بوش الابن عقب حادث تدمير مبنيي مركز التجارة العالمية في الحادي عشر من أيلول في نيويورك سنة ألفين وواحد، وذكر فيه سوريا وبشار الأسد بالاسم، لنفهم كم أن سوريا مفيدة لمنظومة الهيمنة الأمنية الغربية. وكم كانت مفيدة لواشنطن وأوتاوا وغيرها من العواصم الغربية كمعسكر احتجاز وتحقيق وتعذيب على مدى السنوات العشر التي أعقبت حادث نيويورك. مثلها مثل إمرالي وربما أكبر وأخطر.
حرية القائد أوجلان الجسدية فرصة السوريين
كسوريين كنا، وما زلنا، مؤمنين بقيم الحرية وحق الشعوب في بناء دولها في أوطانها الطبيعية. وقاومنا قوى الاستعمار الغربي منذ سقوط الدولة العثمانية ودخول المستعمر الغربي الذي تقاسم الكعكة العثمانية. وكان من أهم ضحايا هذا المستعمر الشعب الكردي. ورغم سقوط نظام الأسد لا يبدو أن سوريا قد تحررت من السلطة كونها جزءًا من منظومة إمرالي العالمية؛ بل ربما تتحول سريعًا لحلقة منها. ولا يبدو النظام الجديد في دمشق قادرًا على المواجهة أو المعارضة لحداثة سنه ولين عوده وقلة خبرته وضعفه البيّن. كما يجد نفسه يسير لاإراديًا مستقويًا بالغرب وحلفائه في المنطقة ومنظومته المستبدة الفاسدة، وإلا سيتم استبداله بطرفة عين وبطريقة مؤلمة.
نهاية إمرالي
لا يمكننا الجزم أن نظام إمرالي سينتهي بخروج المفكرعبد الله أوجلان ورفاقه منه. فتاريخ المواجهة مع قوى الاستبداد والفساد العالمية لم ولن ينتهي بهذه السهولة. وحتى النهاية السعيدة المرتقبة للقائد أوجلان ورفاقه بالحرية ليست بالقدر الذي يُنسينا كم هي سعادة مغموسة بآلام وعذابات ممتدة ومتواصلة على مدى نصف قرن. ومع استمرار نهج التسلط والاستعباد والاستغلال؛ تستمر المقاومة كقدر محتوم وفرض عين على كل روح عزيزة تواقة للحرية.
........ نقلاً عن صحيفة روناهي