بث تجريبي

جدلية المجتمع والدولة: منبع الأزمة وطريق الحل

في سياق دراسة الأزمات التي تعصف بشعوب منطقة الشرق الأوسط وتحليلها، تبرز الحاجة إلى قراءة تتجاوز المنهجيات الوضعية، ومدارس الاقتصاد السياسي، والعقليات الاستشراقية، وكذلك المقاربات الميتافيزيقية، والتفسيرات الطبقية، نحو مقاربة جديدة تبحث في العلاقة بين المجتمع والسلطة، كما بيَّنها المفكر والقائد عبد الله أوجلان، بوصفها إحدى أهم القراءات الجادّة والصحيحة لفهم نشوء وتطوّر الأزمات في المجتمعات البشرية منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا.

ويمكن القول إن العلاقة المعقدة والمتشابكة بين المجتمع والدولة تقف في صميم الأزمات التي تعاني منها المجتمعات الإنسانية، بوصفها إحدى أكثر الإشكاليات مركزيةً وتأثيرًا. فبينما يُفترض بأي هيكلية إدارية أن تنشأ من رحم المجتمع لتنظّم حياته وتحمي مصالحه، نجد أن الدولة نشأت من زمرة فوقية وتحوّلت، في كثير من التجارب التاريخية، إلى كيان متضخم ينزع نحو الهيمنة والاحتكار، متجاوزًا حدوده الوظيفية، على حساب حرية المجتمع وخصوصيته وتنوعه.

لقد بدأت الأزمة الاجتماعية والسياسية والثقافية منذ لحظة انحراف العلاقات الإنسانية والمجتمعية والإدارية، وكذلك العلاقة بين الرجل والمرأة، نحو الهرمية الفوقية. هذه الحالة أدت إلى نشوء السلطة المتجسّدة في تحجيم دور الإنسان والمجتمع والمرأة، واحتكار القيمة الزائدة، وعناصر القوة والدفاع، والتحكم باستمرارية الحياة وكرامة الإنسان وحريته. فالمجتمع، بطبيعته، كيان عضوي، تعددي، نابض بالحياة والعلاقات المتداخلة، يحتضن ضمنه ثقافاتٍ، وهوياتٍ، وأشكالًا متعددة من التنظيم الذاتي. أما الدولة، خصوصًا بصيغتها الحديثة كـ"الدولة القومية"، فهي بنية بيروقراطية مركزية، تسعى إلى التجانس والإخضاع، وغالبًا ما تُعيد تشكيل المجتمع قسرًا وفق رؤيتها الإيديولوجية، ضامنةً بذلك ديمومة سلطتها، لا حيوية مجتمعها.

وقد انخدعت بعض شعوبنا، والتيارات السياسية والفكرية والفلسفية، بفكرة أن الدولة القومية تمثّل طريقًا للحرية والديمقراطية والعدالة، في حين أنها، في الواقع، كانت وما زالت أداةً لإنتاج مزيد من المشكلات وتعقيد القضايا.

تخفي هذه الجدلية، التاريخية والمعاصرة، خلفها الكثير من تفاصيل الحياة التي حاول البعض تدميرها أو طمسها بأسماء وشرعناتوقدسيات متعددة، ليتم بذلك إخفاء بنية الصراعات والحروب، وبالتالي تغييب سُبل الحل، وتمهيد الطريق أمام الهيمنة والنهب والاستبداد.

ورغم أن المجتمعات والطبيعة دافعتا عن نفسيهما كوسيلة للبقاء والحفاظ على الخصوصية والتعبير والعمل، فإن قوى التسلط والهيمنة والنهب، التي سعت إلى قتل الإنسان والطبيعة وإضعاف المجتمع، وجدت في الدولة القومية — ذات المنبع البريطاني والصهيوني كما يشير أوجلان — فرصةً سانحة للتمدد والتسلل إلى مفاصل المجتمع كافة، من خلال شعارات وعناوين خادعة، لتبقى الحياة جحيمًا بالنسبة إلى الشعوب والمجتمعات، حتى تلك التي تُستَخدم من قِبَل الدولة القومية ذاتها، ضمن نظام يُعَدّ أداةً مركزية من أدوات النظام الرأسمالي العالمي.

يرى المفكر والقائد عبد الله أوجلان أن هذه الجدلية بين المجتمع والدولة ليست خلافًا تنظيميًا بسيطًا، بل تمثّل منبعًا أساسيًا للأزمة التي تعاني منها المجتمعات، لا سيما في الشرق الأوسط. فالدولة القومية، لم تكن أداة للتحرر، بل وسيلة لتفكيك المجتمع، وتهميش المرأة، وتكريس السلطة الأبوية، وإضعاف البنى الاجتماعية الطبيعية.

وقد أدى هذا الخلل البنيوي إلى تشظّي الهويات، وتآكل التضامن الاجتماعي، وتحويل الإنسان إلى كائن مُستلب يُدار من فوق، بدلًا من أن يكون فاعلًا ومشاركًا في تقرير مصيره. كما تسببت هذه الهيمنة في انفجار أزمات سياسية، وبيئية، واقتصادية نتيجة تغوّل الدولة على الحياة.

نعتقد أن تمكين الإنسان والمجتمع والمرأة من التعبير والتنظيم والمشاركة وممارسة السياسية الديمقراطية سيؤدي بالضرورة إلى قلب المعادلة السلطوية المفروضة على شعوبنا. ولكن من المهم الإشارة أيضاً أنه مع الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، يبقى التفاضل بين أن نكون فاعلين أو مفعولًا بهم أمرًا صعبًا في ظل تحكّم قوى السلطة والدولة بها إلى حدٍّ كبير، ويشكّل تحديًا لا بد من قراءته بمنطق وتوجّه علمي، وبأهمية أولوية المجتمعات ومصالحها العليا، التي يجب أن تبقى في المقدمة، مع بذل جهود كبيرة لاستيعاب تطوّر المعلومة والتقنية وتكيّفها مع حالة التفاعل الإيجابي.

لقد ولّى زمن الأحاديات القومية والدينية وإنكار الآخر، ومعه المعادلات السلطوية الصفرية التي فُرضت على شعوب المنطقة على مدى قرن من الزمان. ومع أن هذه النماذج لم تعد صالحة حتى لحركة رأس المال العالمي، فإنها بدأت تتهاوى داخليًا وخارجيًا، رغم تمسك البعض بها وبالعقليات المتكلسة المرتبطة بها. والدلائل على هذا التهاوي واضحة في محيطنا اليوم.

لكن الكارثة الحقيقية تكمن في أن معظم قوى المنطقة، وكذلك المنظومة الدولية (أو منظومة الهيمنة الإقليمية والدولية)، لا تملك بديلًا حقيقيًا يعبّر عن مصالح شعوب المنطقة ومجتمعاتها. فهناك فقط محاولات لإعادة رسم الخرائط، واستبدال أدوات الهيمنة، وربما تقليص أو إلغاء أدوات ودول نشأت في أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية.

نحن اليوم نعيش في قلب ما يمكن وصفه بالحرب العالمية الثالثة، في لحظة مفصلية من تاريخ الشرق الأوسط، تُحتّم علينا ألا نلوم أحدًا سوى أنفسنا، وألا نعتمد إلا على قوتنا الذاتية وتحالفاتنا الاستراتيجية كشعوب أصيلة في هذه المنطقة، في مواجهة توحش السلطة وسعيها للتمسك بالامتيازات الشخصية والعائلية والحزبية، حتى لو كان ذلك على حساب دماء الشعوب وتبعيتها للخارج.

إن استدعاء المجتمع بكل مكوناته وتكويناته، بقيادة المرأة والشباب، وبشكل واعٍ ومنظم، إلى ميادين النضال والعمل والبناء والتغيير والتحول الديمقراطي، يشكل رافعة ضرورية للخروج من عقم النضال القديم وعقلياته الأيديولوجية الضيقة، ولتشكيل قوة حقيقية قادرة على تحقيق التعايش، والتشارك، واحترام الهويات، وصولًا إلى الحرية والديمقراطية المنشودة.

نحن اليوم أمام مشهد معقّد من تداخل الثورة والثورة المضادة، ومن صراع بين تحركات المجتمعات لتحقيق حياة حرّة وكريمة، ومساعي السلطة للاستمرار في القمع والنهب تحت شعارات كاذبة وإصلاحات سطحية، بينما تستمر في التبعية للخارج وتمنع أي تحول ديمقراطي حقيقي. 

نعتقد بأن الصراع الجوهري اليوم هو بين قوى الحرية والديمقراطية من جهة، وقوى الدولة والسلطة من جهة أخرى. وتحقيق الاستقرار والسلام يقتضي قيام توافق ديمقراطي حقيقي، أو ما يمكن تسميته بـ"التكامل الديمقراطي"، الذي يحقق حالة من التوازن الاستراتيجي ، وهو ما يمكن أن يفضي إلى سلام دائم مبني على المجتمع الديمقراطي، كما طرحه المفكر والقائد عبد الله أوجلان في "نداء السلام والمجتمع الديمقراطي"، الذي قدم رؤية واستراتيجية جديدة هي "السياسة الديمقراطية" كبديل مهم لتجاوز حالة العقم السياسي والهيمنة، والدولتية الأحادية، والإبادة المجتمعية التي يمثلها النظام الرأسمالي العالمي.

إن الخروج من الأزمة لا يكون من خلال إصلاحات شكلية داخل بنية الدولة، بل من خلال إعادة الاعتبار للمجتمع كمصدر أساسي للتنظيم والإدارة والوعي والمؤسساتية الديمقراطية، وبناء نماذج تشاركية تُقلّص من سلطة الدولة وتُعيد الاعتبار والزخم إلى الحيز المجتمعي عبر دساتير ديمقراطية وآليات سياسة وقانونية تصون وتحافظ على الخصوصيات المجتمعية وحقها في الدفاع الذاتي. وهو ما عبر عنه المفكر والقائد عبدالله أوجلان بــ "السلام والمجتمع الديمقراطي" ومفهوم "الأمة الديمقراطية" كبديل للدولة القومية، حيث تسود تكامل الشعوب والهويات والإدارة الذاتية، والتنوع، والعدالة الاجتماعية، وحرية المرأة.

قد يهمك