بث تجريبي

إلهامي المليجي يكتب: دعوة أوجلان التاريخية.. انعطافة السلام وفرص المستقبل

حينما يقرر التاريخ أن يغيّر وجهته، كثيرًا ما يفعل ذلك عبر أصوات تنادي بالسلام، وتطرح رؤى تتحدى منطق الحرب والصراع المستمر. وهذا ما تجسده الدعوة التاريخية التي أطلقها القائد الكردي عبد الله أوجلان في يونيو/حزيران 2025، والتي لم تكن مجرد تصريح سياسي، بل خطوة جريئة تُشكل منعطفًا حاسمًا في مسار الصراع الكردي التركي المستمر منذ عقود.

هذه الدعوة، بتوقيتها ورمزيتها، تفتح الباب واسعًا نحو مستقبل آخر قد يسوده التعايش والديمقراطية بدلًا من البنادق والدماء.

أوجلان ودعوة التحول التاريخي

تُمثل الدعوة التاريخية التي أطلقها القائد عبد الله أوجلان (آبو)، في 19 يونيو/ حزيران 2025، مرحلة فاصلة في تاريخ القضية الكردية والصراع مع الدولة التركية. جاءت هذه الدعوة لتشكل انعطافة سياسية كبرى تعكس تحولات عميقة داخل حزب العمال الكردستاني، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الصراع السياسي السلمي، بعد عقود طويلة من الكفاح المسلح.

نهاية الحلم القومي الكردي

تحمل دعوة أوجلان بُعدين رئيسيين، الأول هو التخلي الرسمي والنهائي عن هدف إقامة دولة قومية كردية مستقلة، وبالتالي التخلي عن استراتيجية الحرب والكفاح المسلح، والثاني هو تبني استراتيجية السلام والمجتمع الديمقراطي، التي تركز على التغيير الديمقراطي والتعايش السلمي في إطار الدولة التركية القائمة.

رسالة رمزية للعالم

إن حرق الأسلحة الرمزي الذي قام به عدد من مقاتلي حزب العمال الكردستاني قبل أيام، يجسد ترجمة عملية واضحة لهذا التحول التاريخي. فقد مثلت هذه الخطوة الرمزية دلالة عميقة على جدية التوجه نحو السلام، ورسالة موجهة للداخل التركي والمجتمع الدولي، مفادها أن الحزب لا يكتفي بالكلام فقط، بل يتخذ إجراءات عملية تؤكد التزامه بهذه الاستراتيجية الجديدة.

حذر وانفتاح

في السياق ذاته، جاء تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد يومين من الدعوة، الذي يعد أول رد فعل رسمي من الدولة التركية على دعوة أوجلان، ليؤكد أهمية وحساسية المرحلة الراهنة.

تصريح أردوغان تضمن اعترافًا واضحًا بالتحولات التي يشهدها حزب العمال الكردستاني، رغم تحفظه وحذره المتوقعين. ويُلاحظ في التصريح أنه لم يرفض الدعوة بشكل قاطع، بل تعامل معها باعتبارها فرصة حقيقية لطي صفحة الصراع المسلح الذي استنزف تركيا لعقود، مشددًا على ضرورة أن تكون هذه الخطوات في إطار قانوني واضح وشفاف.

الحرية المجتمعية كمدخل للحل

اللافت في دعوة أوجلان هو تبنيه لمبدأ الحرية المجتمعية التي لا يمكن فصلها عن الحرية الفردية، مؤكدًا بذلك أن مسألة إطلاق سراحه الشخصي ليست الشرط الوحيد أو الأساسي في هذه المرحلة. هذا التوجه يعزز مصداقية الدعوة ويقدم مساحة أوسع للحوار مع الدولة التركية، التي ظلت تتعامل مع ملف أوجلان باعتباره قضية أمنية معقدة.

فرص وتحديات المرحلة الجديدة

إن قراءة المشهد الراهن تشير إلى أن المنطقة برمتها باتت أمام فرصة تاريخية للسلام. خطوة حزب العمال الكردستاني بحرق الأسلحة وتصريح أردوغان الحذر والمنفتح نسبيًا، يشكلان معًا بوابة محتملة لمصالحة تاريخية حقيقية، قد تؤدي إلى تغييرات جوهرية في واقع الأكراد في تركيا وفي استقرار المنطقة عمومًا.

لكن السؤال الأهم يبقى: هل ستنجح تركيا، ممثلة بأردوغان، في اغتنام هذه الفرصة التاريخية، أم أن الحذر والتردد قد يبددان الفرصة ويعيدان المنطقة إلى مربع التوتر؟ الإجابة عن هذا السؤال تكمن في الأيام القادمة، مع مراقبة جدية الخطوات العملية من كلا الطرفين، لكن المؤكد أن ما بعد دعوة أوجلان التاريخية لن يكون كما قبلها.

هذه الدعوة وما رافقها من تحولات، تستحق تحليلًا أعمق ومتابعة دقيقة، لأن تداعياتها ستحدد مستقبل تركيا، وربما المنطقة بأسرها.

إرادة سياسية وشجاعة من جميع الأطراف

لقد دقت ساعة الحقيقة، والمنطقة تقف اليوم على مفترق طرق بين الماضي المشبع بالألم والدماء، والمستقبل الواعد بالسلام والتعايش. 

دعوة أوجلان التاريخية تقدم خريطة طريق حقيقية، لكن تحقيقها يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية وشجاعة من جميع الأطراف. فالسلام الحقيقي لا يصنعه الحذر ولا يرسخه التردد، بل هو نتاج رؤية ثاقبة وجرأة في اتخاذ القرارات. الأيام القادمة وحدها ستقرر إذا كنا أمام فجر جديد، أم مجرد فصل آخر في كتاب الصراع الطويل.

 

نقلًا عن: ڤيتو

قد يهمك