في غياهب الأزل، وقبل أن تتجلى الأكوان، نُقشت حكايةٌ في صحائف الغيب، حكايةٌ تتراقص ذراتها في فضاء الكينونة، وتتردد أصداؤها في محراب القلب النابض حكايةٌ تبتدئ بنداءٍ كونيٍّ سرمديٍّ يصدح في أرجاء العماء، يُعلن عن سرِّ الوجود.
كلٌّ في فلكٍ يسبحون
هذه الكلمات، ليست مجرد وصفٍ لحركة الأجرام السماوية في كبد السماء الزرقاء، بل هي إشارةٌ إلهيةٌ خفيةٌ تُفصح عن سرِّ التصميم الكوني الفريد فكلُّ كيانٍ في هذا الوجود المُتجلّي، من الكواكب التي تُضيء الظلمات، إلى الذرات التي تُشكل أدق التفاصيل، وحتى الأرواح التي سُكبت في قوالب الأجساد، كلها تتبع مساراً مقدراً، فلكاً أزلياً، قد رُسم لها بإتقانٍ إلهيٍّ لا تُدركه العقول إلا بالفيض. لا اصطدامَ عشوائياً هنا، بل هو جريانٌ أبديٌّ وانسجامٌ كونيٌّ في رقصةٍ مقدسةٍ، تُعزف ألحانها على أوتار الوجود، وتُسمع بآذان القلب.
مدار الروح ورحلة العشق في التجلي
تتجلّى الحكمة الروحية العميقة في هذا التناغم البديع. فكما أن للأفلاك مداراتٍ لا تحيد عنها، كذلك للوجود الإنساني لكل كائنٍ "فلكه" الخاص، مساره الروحي الفريد الذي خُطَّ له في اللوح المحفوظ، بمداد النور. يدور الوجود في هذا الفلك عبر تجلياته المتنوعة تجاربه التي تُصقله وتُطهّره، علاقاته التي تُوسّع أفقه وتُظهر له مرآة ذاته، تحدياته التي تُعلي من شأنه وتُقربه من حقيقته، وكشوفاته التي تُنير بصيرته وتُذيب حُجب الغفلة. أن يظل السالك صادقاً لمداره يعني أن يعيش بهدفٍ سامٍ، أن يسعى للانسجام مع الحقائق الكونية العُليا، وأن يتجاوز مقارنة مساره بمدار الآخرين. فالذات لم تُخلق لتتبع فلك غيرها؛ فلكها الخاص مقدسٌ، فريدٌ، ومصممٌ لها وحدها من فيض العناية الإلهية، ليُكمل دورته في حضرة المحبوب.
والكلمة العميقة هنا، "يسبحون"، لا تُشير إلى حركةٍ جامدةٍ قاصرة، بل إلى سباحةٍ، أو انزلاقٍ رشيقٍ دائمٍ في بحر الوجود. روحياً، يُنبئنا هذا بأن النمو جوهريٌّ لجوهر الوجود. فكما أن الأجرام السماوية لا تتوقف عن الدوران في فلكها، يجب على الروح أن تستمر في التطور والترقي، في رحلةٍ لا نهاية لها نحو الكمال. فسكون الروح، و ان الانفصال عن الإرشاد الإلهي، هو أمرٌ يتعارض مع طبيعتها الفطرية المتوقة للكمال والتجلي، بل هو موتٌ قبل الموت.
وعندما يُسلّم الوجود أمره لإرادة الحق المطلقة، فإنه يُحاذي ذاته مع هذا الإيقاع الكوني العظيم. تصبح مسيرة الحياة أكثر سكينةً وسلاماً، وتتلاشى الاضطرابات، عندما يُوثق بالمدار الذي يُوجد فيه الوجود، بدلاً من محاولة فرض مدارٍ مختلف. الاستسلام الروحي هو في جوهره محاذاةٌ كونيةٌ للذات مع إرادة الخالق المطلقة، في وحدةٍ لا انفصام فيها، حيث يذوب الفرد في الكل.
كل شيءٍ يدور، ليس عشوائياً، بل في تناغمٍ جماعيٍّ يُشير إلى وحدة المصدر، وإلى سرِّ الواحد المتجلي في الكثرة عدد لا يُحصى من الأجرام السماوية، كلٌّ منها يحمل تفردَه الخاص، ومع ذلك كلها جزءٌ لا يتجزأ من نظامٍ كونيٍّ أعظم، يُشير إلى وحدة الصانع. روحياً، هذا يتحدث عن الوحدة المتجلية في التعدديات البشرية متنوعة في أشكالها وألوانها ولغاتها، ومع ذلك نحن جميعاً جزءٌ من خطةٍ إلهيةٍ واحدة، نتحرك معاً عبر الزمان والمكان، كأنفسٍ متصلةٍ بجوهرٍ واحد. سبحان الله كل جزءٍ فينا، كل خلية، كل نبضة، صُنعت لتُسبّح بحمد الله، ولتُعلن عن وجوده، ولتُشهد على عظمته.
كل جزءٍ فينا لم يُصنع لمجرد الوجود المادي الفاني، بل ليُحب. ليذوب في حبه الإلهي، في بحر العشق اللامتناهي. ففي هذا الذوبان، هذا الفناء في المحبوب، هذا التلاشي للذات، تتجلى حقيقة الوجود عباداً متفانين في خدمته، عشاقاً متيمين بجماله، باحثين عن التجلي الإلهي في كل شيء، في كل نفس، وفي كل لحظة. وفي كل لحظةٍ يُذكر فيها الخالق، يقرب الوجود إليه أكثر، حتى يصبح العشق هو جوهر وجوده، ولبُّ كيانه، وغايته القصوى. حب الله هو الجمال الأسمى الذي لا يُضاهى، وهو سرُّ الوجود كله، ومنه ينبع كل جمال.
في لحظات التأمل العميق، يُمكن للروح أن تستشعر ذلك الاتصال الخفي بين الأنفاس وجوهر الوجود. أن تشعر بالوحدة الكامنة، وبصدرها يرتفع ويهبط مع كل شهيقٍ عميقٍ يملأ الروح بنور الحياة، يليه زفيرٌ كاملٌ يُفرغ الهموم ويُعيد الذات إلى السكينة، كأنها موجةٌ تتلاطم في محيطٍ لا نهائيٍّ من الطمأنينة.
نحن أيضاً متصلون بحركة هذا الكون من حولنا، بحركة الأفلاك والذرات، وبإيقاع الوجود. وهذا الارتباط يجلب الهدوء إلى العقل، ويُسكن الفؤاد، لأن هذا التنفس في حقيقته "تسبيحٌ" مستمرٌ لا ينقطع. حركة تلك الموجة في الصدر هي تسبيحٌ دائمٌ للخالق العظيم، يُعلن عن حضوره في كل لحظة. سبحان الله!
أجسادنا تتكون من٧٠٪ من الماء، وهذا يقودنا إلى التأمل في التجارب التي أُجريت حول تأثير الكلمات على جسم الإنسان، وخاصة آيات القرآن الكريم. فكل جزيءٍ فينا يتوق إلى الخالق الأوحد؛ ليس فقط الروح هي من تعرف الله وتُسبّحه، بل كل جزيءٍ في هذا الكيان المادي، كل ذرةٍ في خلايانا، هي في تسبيحٍ مستمرٍ لا يتوقف، وإن لم ندرك نحن.
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم (القرآن الكريم، سورة الإسراء)معرفة الله نعمة عظيمةٌ منه، تُضيء دروب الروح وتُثري الوجود بأكمله، وتُعلي من شأن الإنسان. اللهم قربنا إليه أكثر فأكثر حتى نصل إلى أعلى درجات حبه، ونتجلى في بحار قربه الأصابع، وهي العناصر، لودائرة التسبيح المقدسة.
تأمل في هذا الربط العميق الذي يُشير إلى وحدة الخلق وتناغم الأجزاء يُعتقد أن كل إصبعٍ من أصابعنا يُمثل أحد العناصر الخمسة التي تُشكل جسم الإنسان الفضاء، الهواء، النار، الماء، والأرض. عندما تُشكل دائرةً بلمس إصبعٍ بالإبهام، فإنها لا تُؤدي مجرد إيماءة جسدية عابرة أو عادة ميكانيكية. إنها تُغلق حلقةً طاقية، تُنسّق الطاقة العنصرية الكامنة بداخل الوجود، وتُعيد التوازن إلى كيانه. هذا الفعل البسيط يمكن أن يجلب التوازن والشفاء والوعي العميق للذات، ويُفتح بصيرة القلب.
الآن، تأمل فعل التسبيح، العد الإيقاعي للثناء بعد الصلاة، أو في خلوات الذكر مع كل تكرارٍ للذكر، تلتقي الأصابع بالإبهام بالتتابع، مُشكلةً دوائر صغيرة. ما قد يبدو عادةً جسديةً ميكانيكية هو، في الواقع، فعلٌ روحيٌّ عميقٌ للروح، يُحرك السكون ويُوقظ الباطن. كل دائرةٍ مكتملة هي اتصالٌ، ليس فقط يُوازن العناصر بداخلنا ويُعيدها إلى أصلها، بل يُحاذي القلب مع الله، مركز الوجود، ومحور كل شيء.
الدائرة، في النهاية، هي الرمز المثالي للواحد الأحد الذي لا بداية له ولا نهاية، الذي منه كل شيء وإليه كل شيء يعود كل ذكرٍ لله ليس مجرد كلمة منطوقة، بل هو مدارٌ مقدسٌ، يسحب الروح أقرب إلى مصدرها الأبدي، إلى حقيقة وجودها الجسد يُحاذي، والروح تتمركز في نقطة الوحدة، ويصبح الذكر إيقاعاً شافياً، رقصةً للعناصر حول المحور الإلهي، في تجلٍّ لا ينتهي، وفناءٍ في البقاء.
الرحلة الأبدية نحو التجلي
في هذا المدار المقدس، حيث كل حركةٍ هي تسبيحٌ صامتٌ يُسمع بآذان القلب، وكل سكونٍ هو تأملٌ عميقٌ يُفضي إلى الحكمة، تتجلى حقيقة الوجود في أبهى صورها. إنها ليست رحلةً تنتهي بحدود الزمان والمكان، بل هي مسيرةٌ أبديةٌ نحو التجلي الإلهي، نحو الفناء في البقاء، حيث تذوب الذات في بحر المحبوب. الروح، في جوهرها الأصيل، تدرك أن وجودها ليس مصادفةً عابرة، بل هو جزءٌ لا يتجزأ من نسيجٍ كونيٍّ محبوكٍ بحكمةٍ بالغةٍ وعشقٍ لا متناهٍ، وأنها خُلقت لتعود إلى أصلها.
عندما نعيش هذا الوعي العميق، تتغير نظرتنا لكل شيءٍ في هذا الكون. يصبح الألم درساً يُصقل الروح ويُقربها، والفرح شكراً يُعلي من شأن العرفان ويُذيب الحواجز، والتحدي فرصةً للنمو والارتقاء في درجات الكمال. نرى في كل وجهٍ بشريٍّ، وفي كل مخلوقٍ حيٍّ، وفي كل ذرةٍ من تراب الأرض، انعكاساً للوحدة الإلهية، فنُدرك أننا جميعاً نُسبّح في فلكٍ واحد، وإن اختلفت ألحان تسبيحنا الظاهرة، فالمصدر واحد. يصبح الكون كله محراباً مقدساً، وكل لحظةٍ هي عبادةٌ خالصة، وكل نفسٍ هو جسرٌ يربطنا بالخالق العظيم، في حالةٍ من الحضور الدائم.
العودة إلى الفرد الصمد في سر الهاء والألف
ولكي تصفو الروح وتتصل بالحق، لا بد لها من العودة إلى الله، الله الواحد الأحد، الفرد الصمد. هو الذي يُوصلنا بالوصل إليه، والمدد كله منه، لا إله إلا هو. نحن إليه راجعون، خُلقنا فرداً من رحم الغيب، وسوف نرجع إليه فرداً، مُتخلين عن كل ما سواه.
وسر القلبُ، يكمن بين الهاء والألف ففي "الله"، والهاء الأخيرة تُشير إلى الذات الإلهية المطلقة، الغيبية، التي لا تُدرك كنهها العقول. إنها إشارةٌ إلى "هو"، إلى الأحدية الصمدية التي لا تُحاط. والألف الأولى في "الله" تُشير إلى الأحدية المتجلية، إلى الظهور الأول للوجود، إلى النقطة التي انبثق منها كل شيء. فكأنما الوجود كله، من ألفه إلى يائه، هو تجلٍّ لهذا السر الكامن بين الهاء والألف، بين الغيب والشهادة، بين الباطن والظاهر
إنها رحلةٌ من الكثرة إلى الوحدة، ومن الظاهر إلى الباطن، ومن الأنا إلى "هو". كلما تعمقنا في هذا الفهم، كلما ذابت حُجب الأوهام، وتجلّت الحقيقة أن لا موجود إلا هو، وأن كل ما سواه فانٍ. في هذا الفناء، يجد السالك البقاء، وفي هذا الذوبان، يجد العبد حقيقة وجوده كجزءٍ لا يتجزأ من العشق الإلهي الأبدي.