في كل مرة سُفك فيها دم، سُبِق بكلام مسموم. إن لم نكبح هذا الخطاب، فسنبني مستقبلاً تحكمه الفوضى، ويغدو تل عران وعدرا وعفرين والساحل السوري مجرد فصول مكررة في دفاتر الألم السوري.
شهدت سوريا منذ اندلاع الأزمة في عام 2011 تحولاً جذرياً في الخطاب السياسي والاجتماعي، حيث انتشر خطاب الكراهية والتحريض على نطاق واسع، سواء من قبل النظام السوري أو جماعات المعارضة المسلحة والمرتزقة والقوى الإقليمية والدولية المتدخلة. تحول هذا الخطاب إلى عنف ممنهج، نتج عنه مجازر طالت مختلف الشعوب السورية، خاصة العلويين والدروز والمسيحيين، بالإضافة إلى مجازر في مناطق مثل تل عران وتل حاصل.
في المقابل، برزت تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا كمحاولة لبناء نموذج يعتمد على التعايش بين الشعوب عبر مشروع “الأمة الديمقراطية”، الذي يركز على أخوة الشعوب والعيش المشترك وقبول الآخر.
لم يكن خطاب الكراهية في سوريا مجرد نتاج جانبي لصراع سياسي أو ردّ فعل غاضب عابر، بل تحول على مدى السنوات الماضية إلى أداة استراتيجية للقتل والتهجير الممنهج. في ظل الصمت الدولي، تغولت وسائل إعلام تابعة أو مقرّبة من النظام السابق والحكومة الانتقالية الحالية في تبنّي خطاب تحريضي دموي، استهدف مكونات رئيسة في النسيج السوري، بدءاً من العلويين، مروراً بالدروز والمسيحيين، ووصولاً إلى الكرد.
بداية الانفجار الطائفي
مع انطلاق الحراك الشعبي في سوريا، تصاعدت نبرة التحريض، لا سيما في بعض المنصات التي وصفت العلويين بأنهم “كفار” و”ميليشيات للنظام”، والكرد بأنهم “مرتدون”، والدروز “بالمؤيدين”… إلخ. هذا الخطاب سرعان ما انعكس على الأرض، حيث شنت مجموعات من “جبهة النصرة”، و”لواء التوحيد”، و”أحرار جبل الزاوية” في 27 تموز 2013 هجوماً على بلدتي تل عران وتل حاصل، بتسهيل من النظام، وقتلت 30 مدنياً في واحدة من أبشع المجازر.
وفي كانون الأول 2013، شهدت منطقة عدرا العمالية في العاصمة السورية دمشق مجزرة مروعة، حيث قُتل عشرات المدنيين من العلويين والدرزيين والمسيحيين على يد “جيش الإسلام” و”جبهة النصرة”. أعقبت ذلك مجزرة اللطامنة في 2013 بحق العلويين، وهي إحدى نتائج الخطاب الطائفي المتصاعد.
لم يسلم الأرمن من خطاب الكراهية والتحريض. ففي عام 2014، شنت مجموعات محسوبة على ما كانت تُعرف بالمعارضة هجوماً على بلدة كسب ذات الغالبية الأرمنية، التابعة لمحافظة اللاذقية، وارتكبت مجازر بحقهم رافقها حالات نهب وتهجير.
بعد الأرمن، وصل الدور إلى الدروز، حيث نفذت “جبهة النصرة” مجزرة في قبور الغازي بحق 20 مدنياً درزياً، بينهم نساء وأطفال. أعقبت ذلك مجزرة بلدة كفريا التابعة لإدلب، والتي كانت مأهولة في الغالب بالسكان الشيعة، وقد تمت هذه المجزرة في سياق التصعيد الطائفي.
إعدام باسم الولاء
وفي عام 2016، تم توثيق عمليات إعدام ميداني بحق أسرى من جيش النظام السابق ومدنيين في ريف حلب الشمالي، خاصة في بلدتي عندان وحريتان، بتهم “الولاء للنظام”.
تتالت المجازر واحدة تلو الأخرى، وبشكل خاص بعد تشكيل دولة الاحتلال التركي لمرتزقة “الجيش الوطني السوري”، واستمرار وجود مرتزقة داعش والمجموعات المتطرفة. في عام 2017، ارتكبت جرائم فظيعة بحق أبناء الشعب الكردي، وخاصة بعد احتلال عفرين ومن ثم سري كانيه وكري سبي، حيث كانت هذه المجموعات المتهمة الأولى في مجازر الساحل مؤخراً.
في كانون الأول 2019، قصف مرتزقة الاحتلال التركي مدينة تل رفعت، التي كان يقطنها مهجرو عفرين، ما أودى بحياة عشرة مدنيين، منهم ثمانية أطفال. كما ارتكبت مرتزقة الاحتلال التركي “الجيش الوطني” جرائم جسيمة في سري كانيه وكري سبي، ومناطق مثل تل عران وتل حاصل، حيث وُثقت حالات إعدامات ميدانية وتهجير قسري بحق مدنيين كرد.
ما بعد السقوط.. مجازر تحت ذريعة “فلول النظام”
في 7 -10 آذار، بعد سقوط النظام، ارتكبت مجازر جماعية بحق الشعب العلوي، أدت إلى مقتل أكثر من 2000 شخص في قرى بأكملها، بذريعة ملاحقة “فلول البعث”. هذا العدد وفقاً للتوثيقات، لكن بحسب المصادر، العدد مضاعف عما يتم تداوله.
بعد مجازر الساحل السوري، شنت مجموعات مسلحة، وتحت ذريعة طائفية، هجوماً ضد أشرفية صحنايا وجرمانا في العاصمة السورية دمشق، ذات الغالبية الدرزية، في 28 نيسان، ما أدى إلى مقتل 56 شخصاً. في 22 حزيران، تعرضت كنيسة مار إلياس في منطقة دويلعة بالعاصمة السورية لهجوم شنته مجموعة مسلحة من بينهم انتحاري، على المسيحيين أثناء القداس المسائي. وبحسب التوثيقات، فقد لقي أكثر من عشرين شخصاً حتفهم وأصيب أكثر من خمسين آخرين.
الكرد في تل عران وتل حاصل تحت المقصلة
اليوم، يتكرّر المشهد ذاته بحق الكرد، لكن هذه المرة في الشمال السوري، في مناطق تخضع لسيطرة مرتزقة “الجيش الوطني السوري” التابعين لدولة الاحتلال التركي. تقارير حقوقية وثّقت “إعدامات ميدانية وتهجيراً قسرياً” لعائلات كردية في تل عران وتل حاصل، تحت ذريعة “التعاون مع الإدارة الذاتية”. الإعلام الموالي للمرتزقة يصِم الكرد بـ “الانفصاليين”، متجاهلاً الطبيعة المدنية لمعظم الضحايا.
ثلاثية الدم: خطاب، رُعاة، وصمت
لماذا يتصاعد خطاب الكراهية بهذه الحدة؟ ثمة ثلاث آليات تقف وراءه: أولاً، إلهاء الرأي العام عبر استخدام التحريض الطائفي لصرف الانتباه عن فساد المعارضة وفشل مشاريعها السياسية. ثانياً، رعاية إقليمية من بعض الدول الداعمة التي تتغاضى عن هذا الخطاب، بل توظفه لإعادة تشكيل الخريطة الديمغرافية بما يخدم مصالحها، وتركيا خير مثال على ذلك. ثالثاً، غياب العدالة الدولية، حيث عندما لا يُحاسب القاتل، تتكرر الجريمة.
في المقابل، ورغم الانتقادات العديدة، حاولت الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا تقديم مقاربة مختلفة. من خلال تجريم خطاب الكراهية في قوانينها، وإشراك جميع المكونات الإثنية والدينية في الحكم، سعت لبناء بيئة تتجاوز ثنائية الضحية والجلاد. لكن؛ هذا النموذج يظل مهدداً بفعل الحصار والتهميش الإقليمي والدولي.
ففي خضم هذا العنف الطائفي، برزت تجربة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا كبديل، حيث تبنت الإدارة الذاتية فكرة “الأمة الديمقراطية” التي تقوم على العيش المشترك بين الكرد والعرب والسريان والتركمان والمسيحيين والإيزيديين، دون تمييز عرقي أو ديني. ورفضت فكرة الدولة القومية الأحادية، معتمدةً على اللامركزية الإدارية والتشاركية السياسية.
ثانياً، على عكس المناطق الأخرى التي شهدت تمزقاً اجتماعياً، نجحت الإدارة الذاتية في منع انتشار الخطاب الطائفي من خلال تشريعات تحظر التحريض على الكراهية، وإشراك جميع الشعوب في الحكم عبر نظام المقاطعة والمجالس المحلية والكومونات.
لقد تحول خطاب الكراهية في سوريا إلى أداة قتل وتدمير، أفرزت مجازر طالت العلويين والدروز والمسيحيين وغيرهم، وزادت من تمزق النسيج الاجتماعي. في المقابل، قدمت الإدارة الذاتية نموذجاً يعتمد على الديمقراطية التشاركية وقبول الآخر، رغم التحديات الأمنية والسياسية. تبقى هذه التجربة درساً مهماً لإمكانية بناء سوريا جديدة بعيدة عن الطائفية والتحريض.
سوريا التي نعرفها تتآكل تحت وقع الكراهية. ليس من قبيل المصادفة أن كل مجزرة كانت مسبوقة بخطاب تحريضي. التاريخ لا يكذب: كل دمٍ بُذل، سبقه كلام مسموم. إن لم نكبح هذا المسار الآن، فإننا نكتب مستقبلاً تسوده الفوضى، حيث يصبح “تل عران” مجرد سطر إضافي في دفتر المجازر، وكنيسة مار إلياس ورقة مبتورة في جبين سوريا الجديدة.
...... نقلا عن صحيفة روناهي
منبر الرأي
منبر الرأي
منبر الرأي