بث تجريبي

ليست مجرد مجازر… بل محو للذاكرة وإلغاء لجمال التنوع

في خضم الصراع السوري المستمر، لم تكن المجازر نهاية الحكاية، بل بدايتها الخفيّة، فحين يسقط الجسد على الأرض، يبدأ الوجه الأعمق للعنف: محو الذاكرة، تشويه الحقيقة، وإجبار الضحية على الصمت، لا عبر القوة وحدها، بل عبر منظومات إعلامية وسياسية أعادت إنتاج الجلاد بأقنعة جديدة.

لقد شهدت سوريا لعقودٍ سياسة إقصاء ممنهجة، حوّلت التنوع الطبيعي الذي يميزها إلى مشكلة يجب “ضبطها” لا الاعتزاز بها. الحرب لم تكن فقط انفجارًا لسوء الإدارة، بل نتيجة تراكمات طويلة من محاولات سحق التعددية الثقافية، واللغوية، والدينية، التي شكّلت روح سوريا الحقيقية.

اليوم، تتسارع محاولات إعادة تأهيل النظام القائم في دمشق سياسيًا، كأمر واقع، دون أي إطار واضح للعدالة أو المساءلة، وكأنّ ما جرى من قمع وجرائم وانتهاكات مجرد أحداث عابرة. هذه المقاربات تُقصي أي أفق حقيقي لحكومة انتقالية تمثّل إرادة السوريين، وتُجهِض إمكانية بناء نظام ديمقراطي يُليق بتنوّع البلاد وتاريخها.

في هذا السياق، برز مشروع “الأمة الديمقراطية” كصيغة إنقاذ واقعية، تُعيد تعريف الوطنية على أساس التعدد والمساواة بين الشعوب، لا على قاعدة المركزية أو الهيمنة. هذه الرؤية لا تتبنّى شعارًا قوميًا بديلاً، بل تُعيد الاعتبار لفكرة الوطن بوصفه فسيفساء من الإرادات الحرة، لا ساحة للصراع بين الهويات.

إن الأمة الديمقراطية في السياق السوري ليست ترفًا نظريًا، بل ضرورة وجودية في وجه عقل مركزي يرى التنوّع تهديدًا، ويرى الأصوات المختلفة صدىً يجب كتمه. هذا المشروع البديل لا يطلب الانتقام، بل يطالب بالعدالة والاعتراف، وببناء سوريا على أسس المساواة لا الإخضاع.

الدبلوماسية الجادة لا تُقاس بالمجاملات الشكلية أو الخطابات المنمّقة، بل بمدى إنصافها للضحايا ووقوفها إلى جانب الذاكرة لا فوقها. وإن تجاهل هذه المبادئ اليوم، لن يؤدي إلا إلى إنتاج صراع جديد، مختلف في الأدوات، مشابه في الجذر.

إن سوريا لا تحتاج فقط إلى إعادة إعمار الأبنية، بل إلى إعادة إحياء ذاكرة وطن… تُقال كما عاشت، لا كما أراد لها القامعون أن تُروى.

إن التغيير الحقيقي في سوريا لا يقوم على استبدال رأس السلطة فحسب، بل على إعادة صياغة العقد الاجتماعي من جذوره، بحيث تُبنى الدولة على أساس التعددية واللامركزية الديمقراطية. إنني أؤمن بوحدة سوريا، لا بوحدة مفروضة بالقوة، بل بوحدة طوعية تقوم على الاعتراف المتبادل بين جميع شعوبها، وعلى احترام الهويات، واللغات، والحقوق، في ظل نظام عادل يكفل المشاركة الحقيقية ويُعيد الاعتبار للذاكرة المقهورة.

....... نقلاً عن صحيفة روناهي

قد يهمك