بث تجريبي

إلهامي المليجي يكتب: أمام مفترق الوعي .. أفق جديد لمشرق مأزوم

سوريا ولبنان، هذا الثنائي الذي جمعته الجغرافيا ووحده المصير، يدفعان اليوم كلفة فادحة لتصدعات الداخل وضغوط الخارج، لا فقط بسبب تدخلات القوى الإقليمية والدولية، بل أيضا نتيجة لأداء السلطات التي تعاقبت عليهما، والتي كرست في لبنان نهجا طائفيا هشا يقصي ولا يدمج، ويقوي الزعامات على حساب الدولة، وفي سوريا، ساد لعقود نهج مركزي مغلق، غابت فيه الديمقراطية الحقيقية، وتراجعت فيه المشاركة الشعبية لصالح القبضة الأمنية والتفرد بالقرار. سوريا ما تزال في نفق طويل، تنوء تحت أعباء حرب استنزفت عمرانها ووجدانها، حرب لم تكن فقط صراعا على الأرض، بل أيضا نتيجة تراكمات داخلية، وغياب مسارات الإصلاح والمشاركة الحقيقية. تتجاذبها التدخلات الإقليمية والدولية، وتخنقها العقوبات التي تمس لقمة العيش وكرامة الإنسان، بينما يتراجع الأمل بحل سياسي شامل يعيد للدولة تماسكها وللمجتمع توازنه. أما لبنان، فقد سقط من علياء النموذج التعددي إلى قاع الانهيار البنيوي، نتيجة منظومة طائفية أكل عليها الدهر وشرب، كرست الزعامات وغيبت دولة المواطنة، حتى صار الشعب اللبناني يمشي على الحافة، يتقاسم الخبز بالحسرة، والكهرباء بالدعاء، والاستقرار بالانتظار الذي لا يأتي. لكن الأخطر من مشاهد الانهيار المتعددة، هو التحلل البطيء والمستمر لفكرة الدولة الوطنية، لا كجهاز إداري فحسب، بل كعقد اجتماعي يربط بين المواطن والدولة على أساس من الحقوق والمسؤوليات. لقد تآكلت قدرة الدولة على جمع مواطنيها تحت سقف واحد، حين عجزت عن تمثيلهم جميعا، وأخفقت في توفير الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية والسياسية. وفي ظل غياب مشروع عربي جامع، تركت الساحات لمشاريع تفكيكية متصارعة، تلبس أقنعة الحداثة حينا، وثياب الطائفية أو الإثنية حينا آخر، وكلها تتغذى من فشل الداخل واستباحة الخارج. غير أن التحدي الأعمق، والذي كثيرا ما يغض الطرف عنه، هو ذاك المرتبط بالصراعات الكامنة بين المكونات الإثنية والعرقية والدينية. فقد بنيت دول ما بعد الاستقلال في المشرق العربي على نماذج سلطوية لم تعترف بتعدديتها، بل قمعتها أو استغلتها ضمن توازنات فوقية هشة، فعمقت الشرخ بدل احتوائه. وما لم تعالج هذه القضايا معالجة عادلة وجذرية، فإنها ستبقى قنابل موقوتة، تهدد وحدة المجتمعات من الداخل، وتسهل اختراقها من الخارج تحت شعارات الحماية أو التمثيل أو التوازن. وهنا تبرز الحاجة الماسة إلى رؤية فكرية جديدة، تعيد تعريف الدولة ليس كمركز للسلطة، بل كحاضنة للعيش المشترك، تتجاوز ثنائيات المركز والهامش، والأغلبية والأقلية، والحاكم والمحكوم. نحن بحاجة إلى تصور يعيد صوغ العلاقة بين الدولة ومكوناتها على قاعدة الشراكة العادلة، لا السيطرة الفوقية، وعلى أساس المواطنة الحقيقية، لا الامتيازات الطائفية أو العرقية. رؤية تعترف بالتنوع كقوة بناءة، لا كتهديد، وتسعى إلى بناء عقد اجتماعي جديد، لا مجرد إدارة توازنات هشة. وفي خضم انسداد الأفق أمام النماذج السياسية التقليدية، وانهيار منظومة الدولة القومية المركزية في أكثر من بلد، تبرز رؤية المفكر الكردي عبد الله أوجلان كما وردت في مرجعه الأساسي 'الأمة الديمقراطية'، كأحد الطروحات الجذرية التي تستحق الإنصات والتمعن. أوجلان لا يتهرب من الاعتراف بالواقع التعددي، بل ينطلق منه ليؤسس نموذجا بديلا للدولة القومية التي قامت على الإنكار والصهر والإقصاء. ففي تصوره، الأمة ليست وحدة قومية صلبة أو إثنية نقية، بل فضاء مفتوح للتنوع، تتأسس على قاعدة التعايش، والمشاركة، والتنظيم الذاتي، ضمن وحدة سياسية لا مركزية. إنه لا يدعو إلى التقسيم أو الانفصال، بل إلى إعادة تعريف الدولة بوصفها منصة تنسيقية بين مكونات المجتمع، لا سلطة متعالية عليه. سلطة تُشتق من القاعدة، لا تفرض من القمة. دولة تبنى من الناس، لا تفرض عليهم. وقد وجدت هذه الرؤية طريقها إلى الواقع في تجربة شمال وشرق سوريا، حيث نشأت إدارات ذاتية مدنية تجسد مبادئ الأمة الديمقراطية، وسط سياق من الحرب والتفكك والصراع على النفوذ. في هذه الرقعة الجغرافية المتعددة الأعراق والديانات، جرى تطبيق نموذج تشاركي يقوم على التمثيل المتساوي، وتداول المسؤولية، وتمكين المرأة، والاعتماد على المجالس المحلية، بما يخلق توازنا نادرا في منطقة تتنازعها أطراف مسلحة ودول كبرى. ورغم ما تتعرض له هذه التجربة من حصار إعلامي وسياسي، ومن تهديدات أمنية مستمرة، فإنها تثبت أمرين في غاية الأهمية: أولا، أن الاعتراف بالتنوع لا يُهدد وحدة الأوطان، بل يحميها من التصدع. وثانيا، أن بناء الدولة من القاعدة، من الناس والمجتمعات، هو أضمن وأصلب من فرضها من فوق، بسلطة المركز وخطاب الإنكار. هذه الرؤية ليست دعوة لتفكيك الأوطان، بل لتفكيك الاستبداد الذي صادر أوطاننا واحتكر تمثيلها. ليست طرحا بديلا للدولة، بل فرصة لإعادة بنائها على أسس المشاركة والمساواة والاعتراف المتبادل. إنها انتقال من محاربة الهويات إلى ترويضها، ومن وحدة قسرية تفرض بالسلاح والخوف، إلى وحدة حية تصاغ بالحوار والمصلحة والمصير المشترك. رؤية الأمة الديمقراطية تفتح أفقا لوطن يتسع للجميع دون أن يلغي أحدا، وطن يدار من القاعدة لا من القمة، ويبنى من الناس لا يفرض عليهم. وفي زمن تتهاوى فيه الدول على رؤوس شعوبها، ويعاد تشكيل الجغرافيا من خارج إرادتنا، ربما آن الأوان أن ننصت للرؤى التي لم تأت من مراكز القوى، بل من هامش أراد أن يصير بوصلة. إننا اليوم، كسوريين ولبنانيين، وكعرب وشرق أوسطيين، نقف عند مفترق طرق حاسم: إما أن نعيد بناء أوطاننا من الداخل، على أسس العدالة والشراكة والاعتراف، وإما أن نستمر في السقوط الحر داخل دوامة التفكك، حيث لا رابح سوى الفوضى، ولا صوت يعلو على ضجيج الانهيار. ولذلك، فإن الرهان الحقيقي لم يعد فقط على موازين القوى، بل على موازين الوعي: وعي يرفض الاستبداد كما يرفض التفتيت، وعي يؤمن بأن الخلاص لا يأتي من الخارج، بل يولد من الداخل، من رحم الأزمات، حين نختار أن نواجه الحقيقة لا أن نهرب منها. فلننج بالوعي... قبل أن تبتلعنا هاوية الخراب الجماعي.

قد يهمك