بث تجريبي

أحمد الشرع .. بين مطرقة الأمريكيين وسندان الإسلاميين!

بعد أكثر من عقد من الحرب الأهلية في سوريا، ومع سقوط نظام الأسد، تشكلت أُطر جديدة للصراع على النفوذ والسلطة داخل البلاد. من بين الفاعلين الرئيسيين في هذا المشهد المعقد يظهر أحمد الشرع، المعروف بأبو محمد الجولاني الرجل الذي كان يوماً ما من أشد المقاتلين الإسلاميين المتطرفين، بات اليوم محوراً استراتيجياً في التوازنات السياسية والعسكرية الجديدة في سوريا.

ولكن، والجزء المفقود من النص ، كيف  تطور الجولاني عبر السنوات؟، ما هي علاقاته المعقدة مع الولايات المتحدة الأمريكية؟، كيف كانت وكيف أصبحت أدواره السابقة والحالية مع القوى الإسلامية المتشددة؟ ، وكيف أسهم نظام الأسد في تشكيل واقع الثورة الإسلاموية التي يمثلها الجولاني؟ وما السيناريوهات المحتملة؟

المسيرة المبكرة للجولاني .. من العراق إلى جبهة النصرة!

في بداية الألفية الجديدة، وبالتحديد خلال الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، انضم الجولاني إلى صفوف تنظيم القاعدة في العراق، حيث كان متزعمه آنذاك أبو مصعب الزرقاوي. تلقى الشرع تدريبات عسكرية وأيديولوجية مكثفة على يد قيادات التنظيم، كما وشارك بعدة عمليات ضد القوات الأمريكية والعراقية، هذا ما أكسبه سيطاً واسعاً لدى قيادات التنظيم وساعده في توسيع نفوذه ضمن القيادات الميدانية للقاعدة.

لاحقاً أُسر في العراق من قبل القوات الأمريكية، وأُطلق سراحه في إطار صفقة مشبوهة، الأمر الذي ينذر لوجود تفاهمات أمريكية معه خاصة مع اندلاع الثورة السورية في عام 2011، وفق ما أشارت إليه عدة تقارير عراقية غير رسمية. ومع انتقاله إلى سوريا، استفاد من الفراغ الأمني والسياسي فيها ليؤسس ما يعرف بجبهة النصرة أي فرع تنظيم القاعدة السوري ، وبما لا يخفى لأحد كيف خاضت الأخيرة معارك كسر عظم مع المعارضة السورية وأعدمت العشرات من قيادات الجيش السوري الحر، وسرعان ما اكتسب قوة كبيرة، وبرز التنظيم كإحدى أبرز الفصائل المسلحة ضد النظام البعثي، بفضل دعم محلي ودولي ضمنياً أو صراحةً.

الدعم البريطاني السري.. وما خُفي أعظم

مع تبدل السياسات الإقليمية والدولية تجاه الوضع في سوريا، كانت جبهة النصرة المتمثلة بالجولاني تدرك جيداً رياح التغيرات الحاصلة، فتطورت من النصرة إلى أحرار الشام ثم إلى هيئة تحرير الشام، تلقت الأخيرة دعماً غير مباشر من جهات غربية، من بينها منظمات بريطانية متخصصة في تدريب المعارضة المسلحة. وعلى الرغم من محاولة إبقاء الأمر سراً، إلا أن الخبر انتشر كالنار في الهشيم، بخاصة في الأوساط السياسية الغربية ذات الرأي العام والمؤثر، التي كانت ترى الجولاني إرهابياً، حيث تضمنت التقارير أن الأخير قد تلقى تدريبات كان الهدف منها تحسين قدراته في الجوانب الإدارية والأمنية، وتحويل الهيئة إلى قوة نسبياً على إدارة المناطق "المحررة" باعتدال نسبي ومقبول نوعاً ما.

هذا الدعم كان جزءاً من استراتيجية غربية لمحاربة داعش واحتواء الجماعات الأكثر تطرفاً، مع محاولة بناء شبكة من الفصائل التي يمكن التفاوض معها مستقبلاً ، وجعلها بديلاً حقيقياً خاصة عندما تحتاجها أمريكا للتغيير، ربما من أجل "ردع العدوان".

العلاقات الأمريكية مع الجولاني .. من إرهابي مطلوب إلى حليف "مقاتل وجذاب" يقولها ترامب!

- رغم تصنيف واشنطن لجبهة النصرة كمنظمة إرهابية في السنوات الأولى، إلا أن العلاقة شهدت تحولات مع تطور الأوضاع على الأرض، فمنذ العام 2014 وحتى عام 2017، وخاصة مع تفاقم تهديد داعش، بدأت الولايات المتحدة بإعادة النظر لتقييمها، لتعتبر الجولاني لاعباً يمكن أن يكون حليفاً ضد تنظيم داعش. ناهيك عن أن العلاقة اتسمت بالحذر الشديد تماشياً مع الدعاية الأخلاقية التي تقودها الولايات المتحدة، وربما الخيال الميتافيزيقي  التي تمارسه الدعاية الأمريكية؛ إذ قدمت واشنطن دعماً غير مباشر لأدوار الجولاني في إدلب، مع فرض رقابة مشددة على تحركاته. ومع سقوط نظام الأسد ووصول أحمد الشرع إلى رئاسة سوريا لقيادة المرحلة الانتقالية، بما لا يُخفى على أحد بأن واشنطن اليوم ترى أن الشرع لديه قوة ضابطة للوضع في سوريا، خاصة مع النسبة الكبيرة من المتشددين الإسلاميين الذين اليوم هم في مفاصل السلطات السورية، ومن ناحية أخرى لعدم إفساح المجال لتركيا وقطر بالتفرد بالشرع، واليوم تخشى واشنطن كما قال مبعوثها الخاص إلى سوريا بأن سلامة الرئيس مهددة من المتشددين "الساخطين"، وفي ظل فرض عقوبات أوروبية جديدة على قيادات سورية كالمدعو أبو عمشة وغيرهم من التبعية التركية ، مما أثار امتعاضاً واسعأ ممن أصبحوا يشككون بنوايا الشرع اتجاه الأخيرة.

- ماذا عن الضغط الإسلامي الداخلي، يسأل مواطن إيجوري، أين الخلافة الإسلامية الموعودة يا سيادة الرئيس؟

على الرغم من تغير البدلات التي كان يرتديها الجولاني ، من العمامة القاعدية وصولاً لربطة العنق المتشبهة "بالكفار"، حاول الأخير أن يظهر كلاعب فاعل ومتغير مع التغيرات الحاصلة في المشهد السوري. فالمشهد الحالي للقارئ السياسي يُفسّر على أنه خصومة أيديولوجية وصراع على السلطة، فمنذ أن قرر الجولاني فك الارتباط بالقاعدة. وبدأت تظهر ملامح خصومة عميقة بينه وبين الجماعات الجهادية الأخرى، أمثال "حراس الدين" و"داعش" وغيرها، وفي ليلة وضحاها تحوّل الأخ المجاهد إلى كافر ومرتد يجب قتله. وهذا يدل بالمفارقة على حالة الصراع الأيديولوجي القائم ما بين الداخل السوري الإسلامي، وما بين الطلبات الأمريكية بالانفتاح والتطبيع وتأطير الجهاديين الأجانب. ولا ننسى تحركات تنظيم داعش الذي بدأ الأخير بتهديداته الفعلية، بعدما استفاد من الفراغ الحاصل إبان سقوط نظام الأسد، وهجماته المستمرة على قوات سوريا الديمقراطية والامن العام التابع لسلطة دمشق في حلب وريف السويداء، كما ولا ننسى انفعالات عناصر الجيش الوطني المأمور تركياً كما ذكرنا آنفاً.

دور نظام الأسد في أسلمة الثورة السورية .. تقاطعٌ مع الحالة الدراماتيكية لسوريا الآن!

اتبع الأسد وجيشه استراتيجية "إما أنا أو الإرهاب" ، حيث اتبع سياسة مقصودة لتغذية التيار الإسلامي المتشدد ، كي يقنع الداخل والخارج بأن البديل عنه هو الفوضى والتطرف، وهذا ما كان واضحاً من التقارب العربي مع الأسد من خلال تطبيع الإمارات والسعودية وغيرها مع نظام الأسد، وعودة مقعد الأسد إلى جامعة الدول العربية، وكأن شيئاً لم يكُن. ولا ننسى الانفتاح الأوربي أيضاً على الأسد حتى قبل أيام معدودة من انطلاق عملية ردع العدوان، وبالطبع لا ننسى تركيا التي صدع أردوغان رؤوسنا بتصريحاته عن نيته للتطبيع مع الأسد، من خلال تصريحات غزلية أقرب إلى التوسل، ولكن السؤال المهم ، كيف عمل الأسد هذا؟ أطلق النظام البائد مع بدايات الثورة السورية المئات من المعتقلين الجهاديين ضمن سلسلة عفو رئاسي، وللصدفة كان معظمهم من التيارات السلفية المتشددة، وللصدفة أيضاً بقي النشطاء المدنيون، ولم يشملهم العفو، ومن هذه الشخصيات كانت أبو خالد السوري وزهران علوش وغيرهم الكثير.

السيناريوهات المحتملة؟

- الاستمرار كقوة أمر واقع: خاصة مع تزايد التيارات والمشاريع المتضاربة والمتدخلة في الشأن السوري ، ومع غياب تام لحل سياسي حقيقي شامل يشمل جميع الأطراف و القوى السورية الأخرى.

- الاندماج في التسويات الإقليمية: من خلال التركيز الأمريكي على مسألة دمج قسد بالحكومة السورية، وإشراك المكونات السورية في آلية الحكم الانتقالي، مما سيولد أساساً توازناً بحكم الديالكتيك الكوني في المشهد السوري، وهذا ما تعول عليه الولايات المتحدة كثيراً ، حتى لمعالجة حساسية تركيا لقوات سوريا الديمقراطية.

- الصراع الداخلي والانقسام: خطر عودة داعش بقوة، خاصة بوجود قوى بشرية تراقب بصمت وتمتعض من تصرفات الشرع، وتراها متناقضة مع الدعوات السابقة لإنشاء الخلافة الموعودة، وفي حال فشل التوصل لاتفاق شامل مع القوى المحلية الدرزية وقوات سوريا الديمقراطية.

خاتمة

أحمد الشرع هو صورة مصغرة للصراع السوري المركب، حيث تتداخل مصالح دولية، ومصالح إقليمية، والصراعات الداخلية. يقف اليوم بين مطرقة الأمريكيين الذين يرونه أداة مؤقتة وأداة ضبط، وسندان الإسلاميين الذين يرفضون تحوله وتعاونه مع الغرب. فالمشهد السوري ما بعد سقوط النظام لا يزال هشاً، ويحتاج إلى بناء مشروع سياسي وطني متكامل لتجاوز حالة الفوضى الراهنة، ومنع استمرار صراع القوى المتطرفة على حساب مستقبل الشعب السوري.

بقلم: رودي رياض حسن

رئيس مشترك لمكتب العلاقات في مجلس شباب سوريا الديمقراطية بشمال وشرق سوريا

قد يهمك