بث تجريبي

حينما كانت «يا ابن موسكو» سبًّا وشتيمة .. العنف البوليسي يحول الفكرة إلى ثورة ذهنية لدى سكينة جانسيز

يشغلنا كثيرًا تفسير عدم قناعة العقلية الأمنية بالتعامل مع الفكر بالفكر، والحوار بالحوار، والمنطق بالمنطق؛ فعادة ما تلجأ السلطة إلى مواجهة الفكر بالعنف السلاح والسجن والنفي، زاعمةً أنه الحل الأمثل والوحيد للقضاء على كل ما يهدد وجودها وامتيازاتها وإحكامها على البلاد وقاطنيها، غير مدركة أن مثل هذه الأساليب دائما ما تقود إلى فشل أمني وتناحر مجتمعي، وتؤدي ازدياد الفكرة انتشارًا وقوة ويقينًا بين المؤمنين بها، وتتحول إلى ثورة ذهنية مجتمعية تهدد أركان النظام الدولتي والسلطوي نفسه بعدما كان الأمر لا يعدو مجرد إصلاحات مجتمعية، وإقرارات حقوقية.

تجارب تاريخية وحالية كثيرة في دول ذات حكم استبدادي سلطوي، لم يحاول القائمون عليها دراستها والإفادة منها بما يحقق استقرارًا مجتمعيًا، ويوجد تناغمًا بين الفرد والقيادة لخلق بيئة يسودها العدل والمساوة والإخاء، وتكون نواة لأمة ديمقراطية تتكامل فيها الأجناس والأديان والمذاهب على اختلافاتها وتنوعاتها، ويشعر الجميع أنهم فيها على قدم المساوة.

فالجمهورية التركية منذ نشأتها وحتى الآن (قرن من الزمان) سيّدة في سياسات العنف الأمني والقمع المجتمعي تجاه الأفكار والفلسفات الهادفة إلى العدالة والمساواة. وملفات هذه الدولة متخمة ومكتظة بمئات القضايا الفكرية والمجتمعية التي حرجت مهدها وإلى مراحل النمو والانتشار بسبب السياسات القمعية على عكس ما كانت تبغيه السلطات التركية.

وفي البرهان على هذا السياق، تحكي المناضلة الكردية الكبيرة سكينة جانسيز (سارة) أنها عايشت وهي لاتزال طفلة في الحادية عشرة من عمرها حدثّا عام 1969م في موطنها درسيم قالت عنه أنه: «أثّر فيَّ من الأعماق»! أي أنه كان سببًا في توجيه بوصلة حياتها إلى زاوية لم تكن هي ولا المحيطون بها يتوقعون أنها سترتقي درجات هذا السلم بكل مخاطره ومراعبه!

فما هذا الحدث الذي فعل فعله في كيان هذه الطفلة والذي كان نقطة انطلاق إلى عالم الكفاح والنضال بما لم يخطر على بالها ولم يكن ضمن طموحاتها ولا خيالاها المستقبلية؟

في مدينة ديرسيم (إحدى المدن الكردية في شمالي كردستان والمعروفة حاليًا بمحافظة تونجيلي) حدث في صيف العام المذكور أنه بدلاً من عرض فيلم سينمائي كما جرت العادة، تقرر أنه سيكون عرضًا مسرحيًّا يروي قصة حقيقية ومثيرة يؤديها فرقة المسرح المعاصر بأنقرة، وتحمل المسرحية اسم شاعر علوي كردي متصوف من شعراء القرن السادس عشر، يدعى «بير سلطان عبدال».

تقول سكينة إن بطاقات الدخول نفدت قبل أيام من العرض، وعُلقت ملصقات في كل مكان، وراجت الدعاية للعرض قبل موعده بمدة، فكان هناك باص يجول في الأحياء مُعرِّفًا عبر مكبر الصوت بمضمون العرض المسرحي وداعيًا الجميع إلى مشاهدته. وقتذاك تؤكد سكينة على أمر مهم، وهو أن ثقافة المسرح منطقتهم لم تكن رائجة، فهي لم تحضر عرضًا مسرحيًّا من قبل، لذا تخيلت أن العرض المزمع عقده سيكون أشبه بالألعاب التي كانت تلعبها، أو بالعروض المسرحية القصيرة التي كانت تقدمها مع زميلاتها في المدرسة الابتدائية.

كان الوقت قبيل الغروب حين عجّت الطرقات بالوافدين لمشاهدة العرض المسرحي، وازدحم الناس أمام السينما خلال مدة قصيرة، مما اضطرت بعض المجموعات إلى التجول حول السينما لضمان الحضور. توضح سكينة أنها كانت تعرف أغلبهم ممن يدرسون في الثانوية ويسمّون بـ«الأخوة اليساريين»، وأن مجرد حضورهم يضاعف الفضول.

لما بدأت الوفود الدخول إلى السينما وصلت سيارة سوداء من نوع «رينو» مسرعة إلى مكان الازدحام في وقت كانت كل نوافذ المساكن تعج بالمتفرجين. في هذا المشهد تروي سكينة جانسيز أنها كانت مع الأطفال مصطفين خارج الازدحام على شكل نصف قوس منتظرين دورهم في الدخول وسط الازدحام والتدافع والمشدات الكلامية، الأمر الذي جذبهم أكثر وزاد من فضولهم غير مكترثين بنصائح الأمهات لهم بالابتعاد والعودة إلى المنزل.

لكن الوصول السريع للسيارة السوداء مُطْلقة صفارات الإنذار خلق جوًّا من الرعب والارتباك، لاسيما بعد سماع تنبه من داخلها عبر مكبر صوت يقول: «انتباه! لقد حظر الوالي عرض مسرحية بير سلطان عبدال، وعلى الجميع إخلاء المكان فورًا».

لم يكد ينتهي الإعلان حتى بدأ الحشد الغفير برمي السيارة بالحجارة، مناديًا بإقالة الوالي/المحافظ، وعمّت الفوضى في غمضة عين. وفي المقابل ازدادت عناصر الشرطة التي باشرت احتجاز بعض المحتشدين، وتعالت القبضات المتعاركة في الهواء، وازدادت الشعارات المدوية حماسًا وعنفوانًا.

في هذا المشهد تقول سكينة: «ما لفت نظري أيضًا هو العراك مع عناصر الشرطة. تسمرت عيناي على هذا المشهد، ما زاد حماسي وذعري في آن، واقتربت أكثر».

لم يشغل سكينة نحيب النساء ولا صراخ الأطفال؛ بل ركزت على معرفة الشخص الذي يعارك الشرطي متخيلة أنها تعرفه، ولما اقتربت منه تأكدت أنه العم علي جول تكين، الذي كان يتعارك مع الشرطي بعنف، وما أن يعلو أحدهما الآخر في العراك حتى تنقلب الآية عكسًا بعد حين، وهكذا دواليك.

في ظل اشتباكات الشرطة مع المحتشدين أتى بعض عناصر الشرطة وجرّوا العم علي جول تكين وأركبوه سيارة الشرطة بالقوة وذهبوا به. حاول أخوه «وليّ» في تلك الأثناء إنقاذ أخيه الأكبر، لكن الشرطة انهالت عليه بالضرب المبرح بالهروات وقبضات الأسلحة، وصاح فيه أحد عناصرها بأسلوب السبّ والشتم بقوله: «يا ابن موسكو! أيها الشيوعي الأحمر! لن تفلت منا. فليأت أبناء موسكو لإنقاذك!». وقُبض عليه هو أيضًا.

في هذه اللحظة تَحَدّقَت أعين سكينة أكثر من جراء ما تسمع، لاسيما «يا ابن موسكو .. أبناء موسكو»! فعقلها يقول إن «وليّ» قرويّ شجاع، لم يسمع أصلا عن «أبناء موسكو»، ربما سمع عن الشعب الروسي، لكن أنّى له أن يعرف من هم أبناء موسكو؟!

أدرك المحتشدون بمن فيهم «ولي» أن توصيف «ابن موسكو»، و«الشيوعي» هو كناية عن شتيمة، وأن الشرطي لم يقل كلامًا حسنًا بطبيعة الحال.

استمر الاشتباك وسط الشعارات الصادحة ووابل الحجارة دون توقف يقابله هجوم عنيف من الشرطة التي تكاثرت في درسيم. ولم تَحُلْ عمليات القبض على المتظاهرين من اصطفاف مجموعات متناثرة ومتدفقة وارتفاع قبضات الأيدي اليسرى في الهواء مع الشعارات المدوية.

هنا تقول سكينة إنه لم يكن عناصر الشرطة وحدهم هم الأقوياء، بل كل ما تعرفهم من المحتشدين كانوا شجعانًا، وهم كُثر. وقبل عودتها للمنزل بدورها ركضت سكينة لفترة مع الحشد المتدفق، غير مستجيبة لنداءات أمها بالعودة الفورية إلى المنزل.

لما عادت سكينة لبيتها تَشَعّت في ذهنها الكثير من التناقضات والأسئلة وعلامات الاستفهام، لا شك أن إجاباتها ستكون بمثابة توجيه إلى أولويات المرحلة الجديدة من حياتها الفكرية والسياسية.

تقول الطفلة سكينة وهي سارحة بخيالها في بيتها إن أول ما خطر ببالها آنذاك أن الشرطي الذي ضرب العم علي هو ذاته الشرطي الذي يسكن المنزل المجاور لمنزلها، أي إنه جارها، وهي تعرفه. فكيف له أن يفعل ذلك؟! إنها تدخل بيته، وتلعب مع أطفاله الذين هم أصدقاؤها في المدرسة، وعلاقة أمّ سكينة جيدة مع زوجة هذا الشرطي ويتزاورن بين الحين والآخر!

أسئلة كثيرة دارت في خلد سكينة جعلتها تقرر ألا تذهب مرة أخرى إلى بيت هذا الشرطي الذي ضرب وأهان ونتف شعر أعمامها والمحتشدين الذين رأتهم سكينة في اتحاد كالجسد الواحد، ولم ينقطع تجمهرهم وصدحهم بشعاراتهم حتى مطلع الفجر إلا بعدما تكاثرت التعزيزات العسكرية من مدن الازغ وأرذنجان، وأُعلن حظر التجوال، وفُتِّشت البيوت بكل عنف ومهانة لقاطنيها، ودوّت رصاصات عناصر الاستخبارات التركية (MIT) وقتلت بعضهم، منهم محمد قلان أخو زوجة خال سكينة الذين كان يقوم بتهدئة غضب المحتشدين من ناحية، ومتحدثًا مع الشرطة من ناحية أخرى بقوله لو أن المسرحية قد عرضت ما كان حدث ما حدث، لاسيما وأن الممثلين أتوا من أنقرة ومعهم الموافقة الرسمية بالعرض، والجمهور قد اشترى بطاقات الدخول وحضر في الموعد! مع ذلك لم يكن جزاؤه إلا رصاصة من شرطي أردته شهيدًا.

لقد كان ذلك بمثابة فاجعة في وجدان سكينة! إن آلية تعامل الشرطة التركية مع حدث كهذا وما آل إليه من ضرب وإهانات واعتقال وقتل لأناس وشباب كان بعضهم أقاربها، ومعظم شبابهم كانوا بمثابة إخوة كبار لها، والجميع يُكنّ لهم الود والاعجاب والتقدير.. هذه الآلية الشرطية التركية جعلت الطفلة سكينة ذات الأحد عشر عامًا تبحث عما وراء هؤلاء الشباب من معتقدات وأيدولوجيات فكرية وسياسية وما يهدفون إليه. فعلمت أنهم شيوعيون يساريون ثوريون. ومن هنا دقت أُذُنها أولى لبنات حياتها النضالية الجديدة قراءةً وسماعًا ومشاركةً وكتابةً مواكِبةً لكل جديد يحقق أفق العدالة والمساواة للإنسانية كلها، حتى أصبحت رمزًا كرديًّا كبيرًا في سماء النضال وفق فلسفة القائد عبدالله أوجلان الموجهة ضد سياسات القمع والتمييز التركي على مدى أربع وأربعين سنة، حتى استشهدت غدرًا برصاصة من الاستخبارات التركية في باريس عام 2013م لتكون نهاية حياتها الجسدية بنفس الرصاصة التي أنهت حياة محمد قلان وبدأت من عندها حياتها النضالية.

قد يهمك