انشغلنا بمشاعر يغلب عليها حزنٌ شديد فى متابعة الأخبار القادمة من سوريا الشقيقة خلال الأيام الماضية؛ حزن لا يضاهيه إلا ما يجرى فى قطاع غزة؛ فنحن نتحدث عن دولة عربية لها مكانة راسخة فى نفوس ووجدان وتاريخ وثقافة المصريين، وشريكة فى النضال والكفاح، وهى من أهم دوائر الأمن القومى المصرى والعربى، وحائط صدّ فى مواجهة المشروع الصهيونى - الأمريكى، لكن الصورة فى سوريا قاتمة، إن لم تكن مظلمة، لدينا كمصريين وأتحدث هنا على المستوى الشعبى وخيارات الدعم أو التأييد أو حتى الشعور بالارتياح تبدو محيّرة؛ فهى بلد تسيطر عليه سلطة لا يمكنك الجزم بأنها من نسيج الأرض السورية.
نعلم جميعاً من هو أحمد الشرع – أو الجولانى – وما هى خلفياته، لكن فى المقابل، فإن نظام بشار الأسد، الذى انهار فى ديسمبر، نعرف جميعًا ما ارتكبه، ومن كان يمثل، وأخطاؤه التى يدركها القاصى والدانى.
ثم تأتى أحداث السويداء الدامية لتزيد من هذه الحيرة؛ فأنت ترفض – بأى شكل من الأشكال – أن تتحول سوريا من بلد متعدد المكونات المجتمعية والثقافية والقومية، يُفترض أن يكون التعايش عنوانه، إلى بلد تتقاسمه «كيانات طائفية وعرقية»، وترغب فى رؤية سلطة تبسط سيادتها على كامل تراب الجمهورية، وقد ترى أن ذلك من حق الدولة، لكنك تخشى فى الوقت نفسه تغوّل العناصر التكفيرية المرافقة للقوات الحكومية فى ارتكاب الجرائم، وقد شاهدنا المشاهد المؤلمة لحلق شوارب أبناء المكون الدرزى، وفى المقابل تصطدم بمشهد مرفوض آخر، حين ترى تيارًا درزيًا يستنجد بإسرائيل – العدو الأول للعرب – بل ويرفع علم الاحتلال فى قلب السويداء، على أرضٍ سورية، فتجد نفسك – رغم كل شىء – تميل للوقوف إلى جانب النظام فى وجه من يستقوى بالعدو.
ثوابت مصرية
هذه التناقضات فى المشهد السورى خلقت حالة من الارتباك لدى المواطن المصرى فى فهم ما يجري، وهى حالة لا تقتصر عليه فحسب، بل لها انعكاسات واضحة على خيارات وتحركات القيادة السياسية والدبلوماسية المصرية، كانت عين السياسى المصرى يقظة دائمًا تجاه ما يحدث فى سوريا، لكن الخيارات ظلت صعبة؛ فالنظام السابق لم يتمكن من احتواء الغضب الشعبى الداخلى المتراكم – حتى وإن كان سبباً من أسباب تحريكه مؤامرات خارجية – وتعامل معه بقمعٍ مفرط، ثم ارتمى بالكامل فى أحضان إيران بمشروعها الخاص فى المنطقة.
لكن القاهرة حافظت على ثوابتها فى السياسة الخارجية حيال الشأن العربى؛ ثوابت قد تبدو فى بعض الأوقات مثالية أو حتى «طوباوية»، إلا أن هناك قناعة راسخة لدى صانع القرار المصرى بأن هذا هو المسار الصحيح؛ فلا تدخل فى شئون الدول العربية إلا فى إطار الدعم والمساندة، والحفاظ على وحدتها وسيادتها، والعمل على رفع المعاناة عن شعوبها، وقد انعكست هذه الثوابت فى تعامل مصر مع الأزمة السورية، حيث أبقت القاهرة قنوات الاتصال مفتوحة مع نظام بشار الأسد، ولعبت دورًا فاعلًا فى الوصول إلى وساطات ناجحة بالتعاون مع أطراف إقليمية ودولية، مثل وساطة حمص فى أكتوبر 2019، انطلاقًا من أن حقن دماء السوريين– أو الشعوب العربية – مقدّم على كل شيء، وأن الحفاظ على كيان الدولة – مهما كانت سلبياته – هو الخيار الأمثل فى ظل التحديات التى تواجه المنطقة.
قناعتى أن مصر رأت فى القطيعة مع نظام الأسد خطأً استراتيجيًا، منح إيران ومحورها مساحة أكبر للتوغّل فى سوريا، كانت الرؤية المصرية تشبه إلى حد بعيد رؤيتها تجاه العراق؛ فكما رفضت القطيعة التى انتهجتها عدة دول عربية مؤثرة مع بغداد بدعوى ارتمائها فى الحضن الإيرانى، رأت القاهرة أنه لا يجب ترك العراق لطهران بسهولة، بل لا بد من الحضور العربى لمزاحمة النفوذ الفارسى، لاسيما فى بلدٍ عربى كالعراق. ومثلما دعمت مصر الانفتاح العربى على بغداد، كانت كذلك رؤيتها مع «سوريا بشار الأسد»، موقف لا يأتى كانحياز أعمى للنظام، بل إدراك لخطورة ترك الساحة السورية فارغة.
وقد تم الانفتاح العربى بالفعل، وعادت سوريا إلى مقعدها فى جامعة الدول العربية، لكن مصر كانت أيضًا صاحبة رؤية أعمق؛ لم تتوقف عند هذا الحد، بل دفعت فى اتجاه ضرورة فتح حوار جاد مع المعارضة الوطنية المعتدلة، يفضى إلى صياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات يشارك فيها الجميع على قاعدة الوطن الواحد، وصولاً إلى إنهاء الصراع الأهلى الذى استمر نحو 15 عامًا، فمصر يهمها وجود سوريا قوية «واقفة على قدميها»، لا مستباحة أمام التدخلات الخارجية، أياً كانت طبيعتها: إيرانية، تركية، إسرائيلية، أمريكية، روسية أو حتى عربية، وهذا ما لم يفهمه «إخوان الشر» الذين زعموا فى أوقات كثيرة أن القاهرة تدعم النظام السابق ضد ما وصفوه بـ«الثورة السورية».
وقد شهدنا فى ديسمبر الماضى تغيّر النظام، وصعود نظام جديد بقيادة أحمد الشرع، لكن حتى فى هذه المرحلة، بقيت السياسة المصرية وفية لثوابتها تجاه سوريا، توقّع كثيرون أن تقطع القاهرة علاقتها بالنظام الجديد، وهو أمر يبدو منطقيًا فى ضوء ارتباطه ببعض الدول التى دعمت – ولو لفترة – جماعة الإخوان الإرهابية، التى لا تزال تسعى لزعزعة الاستقرار فى مصر.
لكن مصر حافظت على موقفها الثابت، فأكدت دعمها كافة خيارات الشعب السورى، ودعت، سواء على لسان الرئيس عبدالفتاح السيسى أو وزارة الخارجية فى مناسبات وبيانات عديدة، إلى إطلاق عملية سياسية شاملة لا تستثنى أحداً من مكونات الشعب السورى، مع التشديد على رفض جميع أشكال التدخلات الخارجية، بغضّ النظر عن الجهة التى تقوم بها؛ فدون عملية سياسية شاملة ستظل النار كامنة تحت الرماد، ويسهل اشتعالها فى أى وقت، وهو ما قد كان فى أحداث مارس بالساحل السورى، ثم أحداث السويداء هذا الشهر.
تدخل إسرائيل
وما من شك أن مصر تتابع باهتمام بالغ ما جرى ويجرى فى محافظة السويداء، فالأمر يبدو واضحاً أنه يتجاوز حدود الصراع المحلى، إلى مستوى أخطر يتمثل فى محاولات دولية وإقليمية لإعادة تشكيل الخارطة السورية وفق اعتبارات طائفية وعرقية، وهو ما لطالما رفضته القاهرة.
فالنظام الإقليمى الذى تتبناه مصر منذ سنوات يقوم على رفض فكرة التقسيم أو الفيدرالية القسرية التى تؤسس لانهيار الدول من الداخل، وسوريا ليست استثناء، وقد تابعنا التدخل العسكرى المباشر فى سوريا بداعى توفير الحماية للدروز، وهو أمر بكل تأكيد تنظر إليه القاهرة بعين الريبة؛ باعتباره سابقة خطيرة تنتهك سيادة الدولة السورية، وتجر البلاد إلى تقسيم محتمل تحت رايات طائفية.
إن الرؤية المصرية فى هذا السياق قائمة على أن استقرار سوريا لا يمكن أن يتحقق عبر تدخلات أجنبية مسلّحة، أياً كانت مبرراتها، بل عبر حلول سياسية شاملة تُنهى التهميش وتحترم حقوق كافة المكونات ضمن إطار وطنى جامع، فالقاهرة التى ترفض بشكل قاطع مبدأ الاستقواء بالخارج، ترى أن استدعاء إسرائيل للتدخل – من أى طرف كان – يضعف القضية السورية ويشرعن الاختراق الصهيونى لأراضٍ عربية تحت ستار الحماية.
وإذ تُبدى مصر تعاطفًا مع أبناء الطائفة الدرزية بصفتهم مكونًا وطنيًا أصيلاً فى النسيج السورى، ولآبائهم مواقف عروبية تاريخية مشرفة، فإنها فى الوقت نفسه تُحذّر من استغلال قضاياهم لصالح أجندات إقليمية قد تؤدى إلى تفتيت سوريا أكثر مما هى عليه، ومن هذا المنطلق، يُتوقع أن تواصل القاهرة الدفع نحو إطلاق حوار وطنى سورى جامع يشمل الجميع، ويضع حداً للحروب بالوكالة، ويكرّس مفهوم الدولة الواحدة ذات السيادة والقرار المستقل، لا أن يجلب فصيل طرفا خارجيا مثل إسرائيل يصل به الحال إلى قصف هيئة الأركان فى دمشق ومحيط القصر الرئاسى.
ولهذا كان بيان وزارة الخارجية المصرية يوم 16 يوليو به الكثير من الدلالات، فقد أدانت مصر الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضى اللبنانية والسورية بما يشمل ذلك من انتهاك سافر لسيادة البلدين العربيين الشقيقين وخرق لقواعد القانون الدولى وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وشددت على الأهمية البالغة لاحترام سيادة كل من لبنان وسوريا والرفض الكامل للتدخل فى شئونهما الداخلية، وتؤكد على ضرورة احترام وحدة وسلامة أراضيهما، وأكدت كذلك أن من شأن هذه الممارسات تعميق حدة التوتر وتمثل عنصرًا أساسيًا لعدم الاستقرار فى البلدين الشقيقين والمنطقة.
نظرة مصر للتدخلات الإسرائيلية فى سوريا لا تنفصل عن الموقف المصرى الرافض للعدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، انطلاقًا من رؤية استراتيجية أوسع تدرك أن تل أبيب لا تسعى فقط إلى تصفية القضية الفلسطينية، بل تعمل على إعادة رسم خرائط الإقليم وفق مصالحها ومصالح شركائها فى مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، وهو ما عبّر عنه رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلى بنيامين نتنياهو بشكل صريح خلال تصريحاته الأخيرة عن «لحظة مفصلية» يعيشها الإقليم، وتوعده بتغييرات استراتيجية فى الشرق الأوسط.
تدرك مصر، أكثر من غيرها، أن العدوان على غزة ليس معزولًا عن التدخلات الإسرائيلية المتزايدة فى سوريا، لاسيما فى الجنوب السورى وتحديدًا فى محافظة السويداء، حيث جاءت الذريعة «حماية الدروز»، لتمنح تل أبيب غطاءً إنسانيًا لتدخل عسكرى يُعيد إلى الأذهان نماذج التدخل الدولى الذى أفضى إلى انهيار سيادة الدول، أو انهيار الدولة ككل، والوضع ربما يكون مختلفًا مع سوريا التى تعانى من الأساس.
إن القاهرة ترى فى هذا التدخل محاولة لفرض واقع جديد على الأرض، يسهم فى تحويل سوريا إلى مناطق نفوذ طائفية وعرقية مفتوحة على التدخلات الأجنبية، بما ينسجم مع الرؤية الإسرائيلية لمنطقة مفككة وضعيفة، يسهل التحكم بمساراتها السياسية والأمنية والاقتصادية، فكما يُراد لغزة أن تخرج من معادلة الصراع العربى – الإسرائيلى لصالح ترتيبات إقليمية تطبع الواقع وتُشرعن الاحتلال، يُراد لسوريا أن تُقسم أو تُدار عبر «كيانات» متنازعة تتماشى مع النموذج اللبنانى أو العراقى، فى أخطر نسخة من تجزئة المجزأ.
من هذا المنطلق، تتعامل مصر أيضًا مع ما يجرى فى سوريا، لاسيما فى السويداء، باعتباره جزءًا من مشروع إقليمى خطير، يستهدف ما تبقى من ركائز الدول الوطنية العربية، ولهذا لا تتهاون القاهرة فى رفض أى تدخل خارجى غير مشروع، مهما كانت مبرراته، وتتمسك بأن حل الأزمة السورية لا يكون إلا من الداخل السورى، ومن خلال حوار وطنى شامل، لا يُقصى أحدًا، ولا يسمح لأى طرف خارجى بأن يرسم خريطة مستقبل سوريا خارج إرادة شعبها.
وقف إطلاق النار الهش
وبعد اشتباكات راح ضحيتها على الأقل قرابة ألف قتيل أعلن عن وقف لإطلاق النار فى السويداء يبدو حتى وقت كتابة هذه السطور هشًا، لكن يمكن أيضًا تحليله حسب رؤية مصر، التى جعلت من ثوابت سياستها الخارجية الحفاظ على وحدة وسيادة الدول العربية ورفض التدخلات الأجنبية، إذن هو فرصة لا يجوز تفويتها، لكنه ليس غاية فى حد ذاته، بل مدخل ضرورى نحو حل سياسى شامل.
أعتقد أن القاهرة ترى أنه لا يكفى وقف إطلاق النار ما لم يتبعه مسار حوارى جاد بين كافة المكونات السورية، يشمل الحكومة الحالية ومعارضيها والمجتمع المدنى والمكونات العرقية والدينية دون إقصاء، وبعيدًا عن منطق الاستقواء بالخارج، كما تؤمن مصر أن التهدئة، مهما كانت مشروطة أو مؤقتة، تقلّص مساحة العنف وتُهيّئ الأرضية لإطلاق عملية سياسية سورية– سورية تقود إلى انتخابات ودستور جديد، وتُنهى حالة الصراع الأهلى الممتدة منذ أكثر من عقد.
الموقف المصرى أيضًا فى ضوء ما سبق، يخشى أن يتحول وقف إطلاق النار إلى غطاء لترتيبات ميدانية تكرّس التقسيم بحكم الأمر الواقع، أو تتيح لقوى إقليمية ودولية تثبيت نفوذها على حساب وحدة الدولة السورية، كما تفعل إسرائيل تحت ذريعة «حماية الأقليات»، لذا فإن الرهان المصرى سيكون على التزام جميع الأطراف بضمان احترام سيادة سوريا ووقف أى تدخل خارجى، وربط أى تهدئة بخطوات سياسية حقيقية، تنسجم مع ما تطالب به مصر منذ البداية: «حل سورى نابع من إرادة السوريين أنفسهم».
"نقلًا عن مجلة المصور"