في هذا الحوار مع "المبادرة"، يقدم خبير الشؤون الإقليمية المصري هاني الجمل قراءة شاملة للتطورات المتسارعة في سوريا في ظل الهجمات التي تنطلق من مناطق الحكومة الانتقالية تجاه مناطق سوريا الديمقراطية، وكذلك المظاهرات التي تضرب مناطق أخرى. محذراً من أن الهجمات التي تشنها مجموعات تابعة للحكومة قد تشعل صراعاً جديداً في شمال وشرق البلاد.
ويؤكد الجمل أن مظاهرات الساحل وغيرها من المناطق جاءت رسالة واضحة ضد أي عودة لسياسات الاعتقال التعسفي، مشدداً على أن نجاح المرحلة الانتقالية مرهون بإرساء نظام حكم شامل لجميع المكونات، ووقف التصعيد، وإطلاق المعتقلين، وفتح حوار وطني واسع يشمل الجميع دون استثناء.
إلى نص الحوار:
*ما قراءتك للمشهد العام في سوريا خلال الأيام الأخيرة، خصوصاً مع تصاعد التوتر بين الحكومة الانتقالية في دمشق وبعض المكونات في مناطق عدة؟
- المشهد السوري اليوم يعكس حالة انتقالية مضطربة وغير مستقرة، وهو أمر طبيعي في مرحلة ما بعد سقوط نظام استبدادي استمر أكثر من خمسة عقود. لكن مستوى التوتر الراهن يتجاوز حدود "الارتباك الانتقالي" ليصل إلى خطر التفجير العسكري. الهجمات التي تشنها مجموعات تابعة للحكومة الانتقالية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، تستند إلى حسابات سياسية معقدة؛ بعضها داخلي يتعلق بمحاولة تثبيت شرعية سلطة ناشئة لم تكتمل عناصرها بعد، وبعضها الآخر مرتبط بصراعات النفوذ، خاصة في المناطق التي كانت تشكل خط تماس معقداً بين النظام السابق و"قسد". وبالتالي، نحن أمام خليط من الرغبة في فرض أمر واقع وبين ضعف القدرة على التحكم في كل الوحدات العسكرية التي انضمت مؤخراً تحت المظلة الانتقالية. هذا القلق يزداد لأن مناطق شمال وشرق سوريا تتميز بتوازنات حساسة، وأي تصعيد غير محسوب يمكن أن يجر البلاد إلى صراع جديد لن يحتمله السوريون بعد كل ما مروا به.
*هل نفهم من ذلك أن سبب الهجمات ليس قراراً مركزياً للحكومة الانتقالية؟
- ليس بالضرورة. من الواضح أن هناك ازدواجية داخل بنية السلطة الانتقالية نفسها. أحمد الشرع، رغم تحوله من قائد عسكري سابق إلى رئيس انتقالي، لا يمتلك بعد السيطرة الكاملة على مجموعات مسلحة كانت تعمل سابقاً ضمن هياكل فصائلية. بعض هذه القوى ترى في قسد خصماً تاريخياً، وبعضها الآخر يخشى من تمدد الإدارة الذاتية في لحظة فراغ سياسي. لذلك، قد يكون جزء من هذه الهجمات ناجماً عن توترات ميدانية ناتجة عن صراعات النفوذ، وليس عن قرار سياسي مركزي. لكن في كل الحالات، تقع المسؤولية على الحكومة الانتقالية لضبط تلك التشكيلات ومنعها من القيام بعمليات يمكن أن تقوض الاستقرار الهش الذي تشكل بعد سقوط النظام السابق. الشرعية لا تُبنى بالمعارك الجانبية، بل بالقدرة على إدارة مرحلة انتقالية تستوعب جميع القوى الوطنية.
*كيف تنظر إلى المظاهرات التي خرجت في محافظات الساحل السوري ضد الحكومة الانتقالية؟
- مظاهرات الساحل لها دلالات عميقة. الاحتجاجات لم تكن ذات طابع سياسي صرف، بل ركزت على ملفات محددة: اعتقالات تعسفية، موقوفون. أي حكومة انتقالية ناجحة يجب أن تُدرك أن السوريين لن يقبلوا تكرار ممارسات الماضي تحت أي مسمى. وبالتالي، هذه المظاهرات ليست مجرد اعتراض محلي، بل رسالة واضحة مفادها أن المجتمع السوري بجميع مكوناته يريد كسر الحلقة الأمنية والمركزية والأحادية التي حكمته لعقود، يريدون إنهاء هذا الزمن. وفي حال تجاهل الحكومة لهذه الرسالة، فمن المتوقع أن تتسع رقعة الاحتجاجات.
*هل تعتقد أن هذه الاحتجاجات يمكن أن تتحول إلى حراك أوسع؟
- الاحتمال قائم. لكن علينا أن نفهم أن الوضع الآن مختلف عن السنوات السابقة. سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024 فتح الباب لمرحلة جديدة تُبنى فيها الشرعية على التوافق لا على القمع. إذا تمكنت الحكومة الانتقالية من الاستماع للمطالب الشعبية وإطلاق المعتقلين ووقف التجاوزات، فستحتوي الأزمة. أما إذا اختارت منطق "فرض السيطرة بالحديد والنار"، فستفقد الثقة بسرعة، في وقت هي تعاني من الأساس من رفض بتلك المناطق بعد المجازر التي ارتكبت، وستتكون جبهة اعتراض واسعة تضم طيفاً من الفئات التي تطالب بنظام حكم عادل وشامل. السوريون اليوم أكثر وعياً من أي وقت مضى.
*هناك دعوات مستمرة تؤكد أن إقامة نظام حكم انتقالي شامل لكل المكونات ضرورة، ما رأيك في تلك الدعوات؟
- هذا ليس خياراً بل ضرورة ميدانية وسياسية وأمنية. سوريا بلد متعدد الهويات، وفشل الدولة خلال العقود الماضية كان سببه الإقصاء لا التعدد. أي محاولة لتكرار نموذج حكم مركزي ضيق ستؤدي إلى تفكك البلاد. المطلوب اليوم ليس مجرد "تضمين رمزي" للمكونات، بل إنشاء بنية حكم تعكس التوازنات المجتمعية، وتحفظ حقوق الجميع، وتؤسس لإدارة لا مركزية حقيقية. لا يمكن لحكومة انتقالية أن تحكم سوريا دون الشراكة مع القوى الكردية، والعشائر العربية، وممثلي الساحل، وممثلي الجنوب، والطاقات المدنية التي تشكلت خلال سنوات الصراع. الشرعية الحقيقية تأتي من المشاركة، لا من الهيمنة.
*ما مدى تأثير أحمد الشرع نفسه على هذه المرحلة، خصوصاً أنه كان سابقاً أبو محمد الجولاني زعيم هيئة تحرير الشام والنصرة؟
- هذه واحدة من أكثر النقاط حساسية في المشهد السوري. التحول من قائد فصيل مسلح إلى رئيس انتقالي ليس تحولاً بسيطاً، بل عملية إعادة تعريف كاملة للدور السياسي. الشرع اليوم يحاول الظهور بصورة رجل الدولة، وربما كانت هناك قطاعات من السوريين مستعدة لمنحه فرصة، لكن الممارسات الإقصائية والأحادية تبدد تلك الآمال. إن نجاحه يعتمد على أمرين: أولاً، قدرته على قطع الصلة مع الأساليب القديمة، وثانياً، قدرته على بناء توافق وطني لا يشكك في نياته. لكن ممارساته حتى الآن عكس ذلك. وفي الواقع أي خطوة خاطئة ستثير الشكوك مجدداً حول طبيعة السلطة التي يقودها. لكنه في الوقت نفسه يملك فرصة فريدة لإثبات أن التحول السياسي ممكن، وأن سوريا قادرة على إنتاج قيادة من داخل واقعها وليس من خارجه.
*ما المطلوب من الحكومة الانتقالية الآن لتجنب انفجار شامل؟
- المطلوب ثلاثة مسارات عاجلة: أولاً، وقف الاعتداءت العسكرية فوراً وإعلان التزام واضح بآليات حل سياسي مع فصيل مثل قسد. ثانياً، معالجة ملف الاعتقالات بإجراءات عملية تشمل إطلاق الموقوفين الذين لم تثبت بحقهم أي تهم، ومحاسبة المسؤولين عن التجاوزات. ثالثاً، فتح قنوات حوار وطنية واسعة تشمل جميع القوى السياسية والاجتماعية والمناطقية دون استثناء. المرحلة الانتقالية لا تُدار بالانغلاق، بل بالانفتاح والإشراك. إن لم تفعل ذلك، ستجد نفسها في مواجهة غضب شعبي يتجاوز قدراتها على الاستيعاب.
*هل لديك تصور للمسار الأنسب الذي يمكن أن يخرج سوريا من أزمتها؟
- نعم، المسار الأنسب يجب أن يجمع بين 3 أبعاد: تسوية سياسية قائمة على عقد اجتماعي جديد، وإعادة هيكلة شاملة للقطاع الأمني، وشروع في مشروع اقتصادي-تنموي يعيد الأمل للسوريين. لا يمكن لأي سلطة أن تستقر بينما الشعب يعيش في فقر والقوى المسلحة تتنازع النفوذ. الاستقرار الحقيقي يبدأ من شعور المواطن بأنه جزء من الدولة لا مجرد تابع لها. سوريا تملك إمكانات بشرية هائلة، ومتى ما توافرت قيادة قادرة على إدارة هذه الإمكانات بروح وطنية جامعة، ستعود تدريجياً إلى مكانتها الطبيعية. هذا ما يجب القيام به لتجنب تكرار أحداث السويداء، وأحداث الساحل، وعدم تفجر الوضع مع المناطق الكردية.