بث تجريبي

من “فاغنر” إلى “فيلق إفريقيا”.. روسيا تعيد رسم خريطة نفوذها في القارة السمراء بثوب رسمي جديد

تشهد القارة الإفريقية اليوم تحوّلًا استراتيجيًا يعيد تشكيل موازين النفوذ الدولي، مع عودة روسيا إلى الساحة الإفريقية بقوة جديدة ومنظمة، بعد تفكك مجموعة “فاغنر” ومقتل زعيمها يفغيني بريغوجين عام 2023. فبعد أن بدت موسكو وكأنها فقدت ذراعها غير الرسمي هناك، استغلت الفراغ الذي خلّفه انهيار “فاغنر” لإعادة بناء نفوذها بشكل أكثر انضباطًا وشرعية.

ومنذ مطلع عام 2024، بدأت روسيا مرحلة جديدة من التمدد الرسمي في إفريقيا من خلال وزارة الدفاع الروسية وشركات أمنية تابعة للدولة، لتشكيل كيان جديد يحمل اسم “فيلق إفريقيا”، الذي تولى المهام التي كانت تقوم بها “فاغنر” في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وجمهورية إفريقيا الوسطى. وبحلول أكتوبر 2025، أصبح هذا الفيلق القوة العسكرية الأبرز في منطقة الساحل الإفريقي، مستفيدًا من الفراغ الذي خلفه انسحاب القوات الفرنسية.

ويتمثل دور “فيلق إفريقيا” في تدريب الجيوش المحلية وتأمين الأنظمة الحليفة وحماية المصالح الروسية، بينما يرى محللون أنه يمثل أداة استراتيجية لتوسيع السيطرة على موارد القارة من الذهب واليورانيوم والنفط والمعادن النادرة، وتحويلها إلى أوراق ضغط بيد موسكو في مواجهة الغرب.

ويقول المحلل الروسي ألكسندر فيودوروف إن الكرملين “استعاد إفريقيا من أيدي المرتزقة”، مؤكدًا أن موسكو تحوّل اليوم نفوذها من الشكل غير الرسمي إلى نفوذ مؤسسي منظم يخضع بالكامل لسلطة الدولة. وأضاف أن إفريقيا أصبحت “جبهة استراتيجية واقتصادية حيوية لروسيا في مواجهة أوروبا والولايات المتحدة”.

الذهب مقابل الأمن.. معادلة النفوذ الجديدة
تسعى موسكو إلى بناء نموذج نفوذ متكامل يجمع بين الأمن والاقتصاد، فتعقد اتفاقات مع الحكومات الإفريقية تمنحها حضورًا طويل الأمد. ففي السودان، تعمل روسيا على إنشاء قاعدة بحرية على البحر الأحمر مقابل دعم أمني للنظام، بينما تحصل في مالي على عقود تنقيب عن الذهب مقابل المساندة العسكرية، وتسيطر شركات روسية على قطاعات واسعة من تجارة الماس والذهب في إفريقيا الوسطى.

ويرى مراقبون أن إفريقيا باتت بالنسبة لفلاديمير بوتين جبهة نفوذ بديلة تعوض العزلة الدولية التي فرضتها الحرب في أوكرانيا، مستندة إلى معادلة “الذهب مقابل الأمن”.

انسحاب فرنسا.. فرصة القرن لروسيا
شكّل انسحاب القوات الفرنسية من مالي والنيجر وبوركينا فاسو نقطة تحول لصالح موسكو، التي قدّمت نفسها كـ"شريك يحترم السيادة الإفريقية"، ما جعلها أكثر قبولًا لدى الأنظمة العسكرية في المنطقة. وأكد تقرير لمركز “تشاتهام هاوس” البريطاني أن روسيا أصبحت اليوم القوة الأكثر نفوذًا في الساحل الإفريقي، متقدمة على فرنسا والولايات المتحدة.

قلق غربي متصاعد
يثير التمدد الروسي المتسارع في إفريقيا قلقًا متزايدًا في العواصم الغربية، إذ تعتبر واشنطن وباريس أن “فيلق إفريقيا” هو نسخة رسمية من “فاغنر” بغطاء حكومي. فيما حذّر مسؤول فرنسي من أن “روسيا لا تقدم حلولًا تنموية بل تستبدل النفوذ الغربي بنفوذ مسلح”.

أما موسكو فتؤكد أن وجودها في إفريقيا يهدف إلى “تحقيق الاستقرار والتنمية وحماية السيادة الإفريقية”، مشددة على أن تعاونها قائم على المصالح المشتركة لا الإملاءات السياسية.

نحو “القرن الروسي الإفريقي”
يرى خبراء أن ما يجري في القارة السمراء يشكّل بداية مرحلة جديدة من التنافس الدولي تشبه أجواء الحرب الباردة، حيث تحاول روسيا، إلى جانب الصين وتركيا، ملء الفراغ الذي تركه تراجع النفوذ الغربي. ويقول الباحث الإفريقي أداما توريه إن موسكو “لا تسعى فقط إلى السيطرة، بل إلى الشرعية، فهي تريد أن تكون قوة مقبولة داخل النظام الإفريقي الجديد”.

وبينما تتوسع أنشطة “فيلق إفريقيا” وتتعاظم الاستثمارات الروسية في قطاعات التعدين والطاقة، يبدو أن إفريقيا أصبحت محورًا أساسيًا في رؤية بوتين لإعادة تشكيل النظام العالمي — حيث لم تعد المعركة تُخاض بالسلاح وحده، بل أيضًا بالذهب والعقود والتحالفات الاستراتيجية التي تمتد من موسكو إلى قلب الصحراء الكبرى.

قد يهمك