في ظل تصاعد التوتر بين أنقرة وتل أبيب، وعودة ما يشبه "صراع النفوذ الإقليمي" في غزة وسوريا، يوضح الباحث في الشؤون الإسرائيلية الدكتور محمد وازن أن العلاقة بين الجانبين لم تعد أزمة عابرة، بل تحوّل استراتيجي يعكس تنافساً مفتوحاً على النفوذ والمكانة في النظام الإقليمي الجديد.
وفي هذا الحوار مع موقع "المبادرة"، يشرح وازن خلفيات الموقف الإسرائيلي الرافض لأي وجود تركي في غزة، وأهداف أنقرة من تحركاتها الميدانية والسياسية، كما يسلّط الضوء على امتداد الصراع إلى الساحة السورية والاقتصادية، مع الحفاظ على سقف "عدم الاشتباك المباشر" بين الطرفين.
إلى نص الحوار
- دكتور وازن، كيف تقيّم طبيعة التوتر القائم حاليًا بين تركيا وإسرائيل؟
العلاقات بين أنقرة وتل أبيب تمرّ بأحد أكثر مراحلها توتراً منذ عقدين. نحن أمام مشهد معقّد يتجاوز الخلافات الدبلوماسية إلى صراع نفوذ إقليمي حقيقي، خصوصاً في غزة وسوريا. إعلان مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رفضه القاطع لأي وجود تركي داخل غزة، حتى لو كان تحت مظلة إنسانية أو أممية، وتأكيد الوزير جدعون ساعر على ذلك اليوم يعكس تحوّلاً واضحاً في رؤية إسرائيل لأنقرة، باعتبارها طرفاً يسعى إلى استثمار المأساة الإنسانية لتعزيز نفوذه السياسي. هذا الموقف ينبع من خشية إسرائيل من أن يتحول أي وجود تركي ميداني إلى نفوذ سياسي دائم داخل الملف الفلسطيني.
- في المقابل، كيف تتحرك أنقرة ضمن هذه المعادلة؟
تركيا تتحرك وفق مقاربة مزدوجة؛ فهي تستخدم خطاباً سياسياً حاداً تجاه تل أبيب لكسب الشارع العربي والإسلامي، لكنها في الوقت نفسه تُبقي على قنوات خلفية مفتوحة مع واشنطن وأطراف إقليمية لتثبيت دورها كضامن في ترتيبات ما بعد الحرب. أنقرة تسعى لتحويل حضورها الإنساني والهندسي في غزة إلى موطئ قدم سياسي يمكّنها من التأثير في بنية الإدارة المستقبلية للقطاع، وبالتالي تصبح لاعباً أساسياً في صياغة "اليوم التالي" للحرب.
- ماذا عن امتداد الصراع إلى الساحة السورية؟
في سوريا، يتخذ الصراع طابعاً أكثر تشابكاً. تركيا رسخت وجوداً عسكرياً واقتصادياً واسعاً في الشمال السوري منذ عام 2016، وتسعى اليوم إلى توسيعه في ظل النظام الجديد في دمشق. من جانبها، تواصل إسرائيل تكثيف عملياتها الجوية في العمق السوري لحرمان خصومها من حرية الحركة، ما يخلق تماساً غير مباشر بينها وبين أنقرة داخل المجال الجوي السوري. بالفعل، شهدت الشهور الأخيرة مؤشرات احتكاك إلكتروني وجوي محدودة، لكن الطرفين حافظا على مستوى محسوب من التصعيد لتجنّب المواجهة المباشرة.
- كيف انعكس هذا الصراع على العلاقات الاقتصادية بين الجانبين؟
اقتصادياً، تحوّل التعاون التركي–الإسرائيلي، الذي بلغ ذروته في السنوات السابقة، إلى ساحة ضغط متبادل. أنقرة أوقفت صادراتها بالكامل وأغلقت موانئها وأجواءها أمام الحركة التجارية، في خطوة ذات بعد سياسي بامتياز. هذا التجميد أفقد العلاقة أحد أهم صمامات الأمان التي كانت تخفف من حدة التوتر السياسي، وأدخل الطرفين في مرحلة "فك ارتباط" تدريجي على المستويين الاقتصادي والدبلوماسي.
- ماذا عن الجانب القانوني والدبلوماسي في المواجهة الحالية؟
تركيا تصعّد خطابها في المحافل الدولية ضد تل أبيب وتدفع باتجاه إدانتها قانونياً وأخلاقياً، بينما ترفض إسرائيل أي صيغة تمنح أنقرة دوراً في إعادة إعمار أو إدارة غزة. إسرائيل تدرك أن أي حضور تركي في القطاع سيكون بمثابة رأس جسر لنفوذ أوسع يمتد إلى الداخل الفلسطيني وربما إلى ساحات أخرى في المنطقة، لذلك تعمل على تحجيم هذا الدور تماماً.
- إلى أي مدى يمكن أن يتطور هذا الصراع؟ وهل نحن أمام مواجهة مفتوحة؟
الصورة العامة تشير إلى أن الجانبين يخوضان صراع نفوذ متعدد المستويات: في غزة حول من يمتلك حق رسم ملامح "اليوم التالي" بعد وقف إطلاق النار، وفي سوريا حول حدود السيطرة الميدانية، وفي الساحة الدولية حول من يملك سردية الشرعية الأخلاقية والسياسية أمام الرأي العام العالمي. ومع ذلك، يبقى هذا الصدام خاضعاً لسقف عدم الاشتباك المباشر، لأن الطرفين يدركان أن أي انزلاق عسكري قد يفتح جبهات مكلفة لا يريدها أي منهما حالياً.
- أخيراً، كيف ترى مستقبل العلاقة بين تركيا وإسرائيل؟
ما يجري ليس مجرد أزمة عابرة، بل تحوّل استراتيجي في بنية العلاقة بين الطرفين، من مرحلة "التفاهمات المؤقتة" إلى مرحلة التنافس الجيوسياسي المفتوح. كل طرف يسعى لتثبيت موقعه كقوة مؤثرة في النظام الإقليمي الجديد الذي يتشكّل على أنقاض حرب غزة وتداعياتها السورية. ومع استمرار تآكل الثقة وتراجع المصالح المشتركة، يبدو أن الشرق الأوسط يدخل مرحلة جديدة من إعادة التموضع، ستكون فيها العلاقة التركية–الإسرائيلية نموذجاً لصراعات النفوذ المقبلة في المنطقة.