دخلت الولايات المتحدة، اعتبارًا من الأول من أكتوبر 2025، في حالة إغلاق حكومي رسمي هي الأولى منذ ما يقرب من سبع سنوات، بعد فشل مجلس الشيوخ في التوصل إلى تسوية بشأن خطة تمويل الحكومة الفيدرالية.
وجاء هذا التطور نتيجة صراع سياسي حاد بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري حول قضايا الإنفاق العام، وعلى رأسها برنامج الرعاية الصحية "ميديكيد"، في مشهد يعكس استمرار أزمة الاستقطاب السياسي التي باتت السمة الأبرز في الحياة العامة الأمريكية خلال السنوات الأخيرة.
ليست ظاهرة جديدة
الإغلاق الحكومي ليس ظاهرة جديدة في الولايات المتحدة، فقد تكرر منذ مطلع الثمانينيات أكثر من 15 مرة، كان أبرزها وأطوله في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب بين ديسمبر 2018 ويناير 2019، واستمر 35 يومًا بسبب الخلاف حول تمويل الجدار الحدودي مع المكسيك. غير أن الإغلاق الحالي يأتي في لحظة حساسة، مع وجود تحديات اقتصادية عالمية وضغوط داخلية متزايدة، ما يجعل تداعياته أوسع وأكثر تأثيرًا على حياة الأمريكيين.
الشرارة المباشرة للأزمة كانت تصويت مجلس الشيوخ على خطط التمويل؛ حيث رفض الديمقراطيون خطة الجمهوريين التي تضمنت تخفيضات حادة في برنامج "ميديكيد"، بينما أسقط الجمهوريون بدورهم مقترح الديمقراطيين للتمويل المستمر. ومع غياب النصاب المطلوب لتمرير أي من الخطتين، أعلن البيت الأبيض رسميًا دخول البلاد في حالة إغلاق، محملًا الديمقراطيين المسؤولية، بينما يرى الديمقراطيون أن الجمهوريين يضغطون لتحقيق مكاسب سياسية على حساب الطبقات الفقيرة والمهمشة.
ماذا يعني؟
الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة يترجم عمليًا إلى تعطيل قطاعات واسعة من الجهاز الإداري الفيدرالي، ووضع مئات الآلاف من الموظفين في إجازات غير مدفوعة الأجر. وبينما تظل بعض الخدمات الأساسية مثل الضمان الاجتماعي، وإنفاذ قوانين الهجرة، والعمليات العسكرية، ومراقبة الحركة الجوية قائمة، فإن قطاعات أخرى مثل المتنزهات الوطنية والمتاحف تغلق أبوابها بالكامل. ويظل التأثير الأكبر على الموظفين الفيدراليين الذين يتوقف صرف رواتبهم، في حين يستمر أعضاء الكونجرس في تقاضي رواتبهم بموجب حماية دستورية، وهو ما يثير غضبًا شعبيًا متجددًا في كل مرة يتكرر فيها الإغلاق.
الأبعاد السياسية للأزمة ربما تفوق آثارها الاقتصادية المباشرة. فالإغلاق يمثل ورقة ضغط متبادلة بين الحزبين، إذ يسعى كل طرف إلى تحميل الآخر مسؤولية الفشل أمام الرأي العام، وهو ما قد ينعكس على نتائج الانتخابات المقبلة. الرئيس ترامب، من جانبه، صعّد لهجته مهددًا باستبعاد أعداد كبيرة من البرامج والمشروعات التي يفضلها الديمقراطيون، في خطوة تكشف إصراره على ربط استمرار التمويل بتحقيق أجندته السياسية.
أزمة بنيوية؟
يمكن القول إن هذا الإغلاق يعكس أزمة بنيوية في النظام السياسي الأمريكي، حيث بات التوافق بين الحزبين أكثر صعوبة من أي وقت مضى. فالتناحر الحزبي لم يعد يدور فقط حول قضايا اقتصادية أو اجتماعية، بل تحول إلى معركة هوية سياسية وفكرية عميقة. كما أن تكرار استخدام الإغلاق كأداة تفاوض يضعف ثقة المواطنين في المؤسسات الديمقراطية ويزيد من حالة الاستقطاب داخل المجتمع.
في النهاية، قد ينجح تصويت جديد في مجلس الشيوخ في التوصل إلى اتفاق مؤقت يخفف حدة الأزمة، لكن المؤكد أن هذه المواجهة ستبقى علامة فارقة تكشف عن هشاشة التوازن بين السلطات في الولايات المتحدة. فالإغلاق الحكومي لم يعد مجرد خلاف مالي قصير المدى، بل أصبح مرآة تعكس عمق الانقسام السياسي الذي يهدد استقرار أقدم الديمقراطيات في العالم.