بث تجريبي

تشكيل الأمن المحلي .. التوازن بين الفاعلين المحليين والنفوذ الإقليمي بسوريا

إن ما تمر به سوريا اليوم هو مرحلة مفصلية في مسارها السياسي والأمني بعد أكثر من عقد من الحرب الكبرى، التي أعادت تشكيل بنيتها المجتمعية والسياسية. فمع تراجع سلطة المركز وتفكك مؤسسات الدولة التقليدية، ظهرت شبكات أمنية محلية ذات طابع عشائري، مناطقي أو سياسي، لتسد الفراغ الأمني وتفرض أنماطًا جديدة من إدارة المجتمع والسيطرة على الأرض، ناهيك عن محاولات القوى الفاعلة إقليميًا ضبط نفوذها في ضوء المستجدات بالبلاد. هذه التحولات أوجدت مشهدًا مركبًا يعكس هشاشة الدولة من جهة، وتكيف المجتمعات المحلية مع واقع الصراع من جهة أخرى.

وبالتالي، لم يعد الأمن في سوريا شأنًا مركزيًا بحتًا، بل أنه قد بات نتاجًا للتفاعلات المعقدة بين القوى المحلية والإقليمية والدولية. فتركيا في الشمال، وإسرائيل في الجنوب، هي أطراف تسعى لتوظيف البنى الأمنية المحلية لتعزيز نفوذها وضمان مصالحها الاستراتيجية. وهكذا أصبح الأمن السوري ساحة للتجاذب بين منطق "السيادة الوطنية" ومنطق "النفوذ الخارجي"، ما يجعل استقرار أي منطقة مرتبطًا بدرجة كبيرة بتوازن القوى المحيطة بها.

كما أن طبيعة البنى الأمنية المحلية ذاتها تعكس تباينًا كبيرًا في أنماط الإدارة ومستويات الكفاءة، ما يفتح الباب أمام تحديات كبرى، حول مدى إمكان الدمج بين هذه القوى ضمن إطار وطني جامع يضمن سيادة الدولة، أم أن استمرارها كقوى مستقلة سيقود إلى تكريس واقع التفكك والتعددية الأمنية. هنا تبرز الحاجة إلى قراءة معمقة لمسارات الأمن في سوريا باعتبارها مفتاحًا لفهم مستقبلها ككل.

وتأسيسًا على ما سبق، يسعى هذا التحليل إلى تفكيك ديناميات إعادة تشكيل الأمن في سوريا، عبر دراسة البنى الأمنية المحلية التي برزت بعد الحرب الكبرى، وتحليل تأثير القوى الإقليمية على مسارها، لفهم طبيعة التوازن بين المحلي والإقليمي في صياغة المشهد الأمني. كما يتطلع إلى استشراف السيناريوهات المستقبلية لمكانة هذه الشبكات ضمن الدولة الانتقالية، وذلك من خلال ربط مسارات الأمن بالتحولات السياسية والاجتماعية الأوسع، بما يسمح بتقييم فرص الاستقرار أو مخاطر الانزلاق نحو جولات جديدة من التفكك والصراع.

 

تحوّلات البنى الأمنية:

تشهد الجغرافيا السورية منذ انهيار منظومة الحرب الشاملة ودخول البلاد في مرحلة انتقالية برئاسة "أحمد الشرع"، بعد هيمنة قيادات "هيئة تحرير الشام" كسلطة أمر واقع، إعادة تشَكيل لخرائط أمنية هجينة تقودها شبكات محلية أكثر مما تقودها مؤسسات مركزية مكتملة. ففي الجنوب، ولا سيما السويداء وريفها، تشكّلت ترتيبات أمنٍ تقودها فصائل درزية وروابط أهلية ومجالس محلية، تتبادل الأدوار بين فكرة "الحراسة المجتمعية" وأسلوب "الإدارة الاضطرارية" للفضاء العام، مع حضور متفاوت للحكومة الانتقالية.

في الشمالين الشرقي والغربي، تتوزع المسؤوليات الأمنية بين قوى محلية وإدارات مدنية (عشائر، مجالس، أجهزة شرطة محلية)، غير أنّ قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تمثل الفاعل الأبرز في ضبط الحدود ومكافحة التهريب وإدارة المنافذ التجارية، بما يجعلها مركز الثقل الأمني والإداري في تلك المناطق، تحديدًا الشمال الشرقي. وفي المقابل، يفرض الاحتلال التركي وجوده العسكري والأمني المباشر في مناطق واسعة من الشمال السوري، مستندًا إلى فصائل موالية له، الأمر الذي يحول قضايا الحدود والموارد التجارية إلى ساحة صراع وتنافس على السلطة والنفوذ.

فمازالت سوريا تمر بمرحلة انتقالية تديرها سلطة أمر واقع، منذ سقوط النظام السابق في 8 ديسمبر 2024، بسبب وجود مجموعة تعطي لنفسها الشرعية وتقوم بإقصاء المكونات السورية الأخرى، ولا تبدي حرصها على توحيد المجتمع السوري بل تعمل على رفع مستويات الطائفية والعنف المجتمعي في البلاد، خاصًة وأن الاستحقاقات الأخيرة في المرحلة الانتقالية شملت عملية إقصاء، من الحوار الوطني الشكلي، والإعلان الدستوري الأحادي، إلى قانون انتخابات مجلس الشعب.  

وهذه البُنى لا تتشابه في مصادر شرعيتها ولا في هندستها المؤسسية، فبعضها يستند إلى الزعامات التقليدية والعُرف الاجتماعي، وبعضها إلى جهازٍ إداري ناشئ، وبعضها إلى رصيد قتالي سابق تحول إلى حق أمر واقع. لكنها، رغم تباينها، تشترك جميعها في ثلاثة خصائص:

(1) محلية القرار والاستجابة السريعة للأزمات الأمنية الصغرى.

(2) اقتصاد ظل يوفر تمويلاً واستقطابًا ويؤثر مباشرة في توزيع القوة.

(3) قابلية عالية للتأثر بالضغوط الإقليمية وبالمحفزات المالية والسياسية.

ومع أن هذه الشبكات نجحت في خفض الجريمة أو منع فراغ أمني في مواقع كثيرة، إلا أن فعاليتها ما تزال مشروطة بقدرتها على التنسيق البيني، وباستعداد المركز لمنحها إطارًا قانونيًا يحد من حالة فقدان الثقة بين المركز والهامش، ويحول دون تضارب الصلاحيات.

تبرز الخبرة التاريخية السورية أن أنماط الأمن المحلي لا تزدهر إلا حين تُدمج في إطار وطني جامع تتحدد فيه معايير واضحة للتفويض، وآليات للمساءلة، وقنوات تمويل شفافة. في المقابل، تتآكل شرعية هذه البنى حين تتحول إلى أداة للصراع الهوياتي أو تُوظَّف كآلية لتحصيل الريع. ومن ثم، فإن التحدي الراهن لا يتمثل في إلغائها أو الإبقاء عليها بصورتها الراهنة، بل في إعادة هيكلتها وتحويلها من تشكيلات ميليشياوية أو حراسات ظرفية إلى مؤسسات شرطة محلية مندمجة: قائمة على تدريب موحد، وقواعد استخدام صارمة للقوة، وولاية قضائية محددة، مع ربط لوجستي وقيادي بوزارة داخلية انتقالية قادرة على وضع استراتيجيات أمنية طويلة المدى بدلًا من التدخلات الظرفية. وبهذا فقط يمكن للدولة أن تستعيد احتكارها الشرعي للعنف، دون الإضرار بالامتداد الاجتماعي الذي يمنح الأمن المحلي فاعليته اليومية.

ويتضح جليًا عبر المقارنات مع البلقان والعراق أن الفارق بين استقرار هش وانهيار مزمن لم يكن في وجود القوى المحلية من عدمه، بل في تحويلها عبر هندسة مؤسسية دقيقة بسلاسل قيادة موحدة، وقواعد استخدام قوة مضبوطة، ميزانيات خاضعة للتدقيق، وإسناد قضائي مستقل، من تخصيص مسيس للعنف إلى خدمة عامة خاضعة للمساءلة، بما يعيد تعريف الأمن من مفهوم "حراسة الهوية" إلى "حراسة العقد الاجتماعي" الذي أدى إلى بلورتها.

تأثير النفوذ الإقليمي:

لم يعد الصراع السوري المعاصر يُختزل في المواجهة بين جيوش نظامية فحسب، بل أصبح صراعًا معقدًا على عقد الأمن المحلي، أي الشبكات التي تُنتج الضبط اليومي للأرض والمجتمع. تحوّل الأمن المحلي إلى عملة سياسية واقتصادية إقليمية، حيث تستثمر فيه قوى مثل تركيا وإسرائيل وغيرهما لفرض نفوذها، وتأمين حدودها، وخلق امتدادات نفوذ ناعمة. تكشف قراءة تحليلية لمقاربات كل من تركيا وإسرائيل والواقع الاقتصادي–السياسي للأمن المحلي أن ما نراه اليوم ليس ترتيبات انتقالية عابرة، بل رهان طويل الأمد على إعادة تشكيل العلاقة بين المحلي والوطني والإقليمي. ولذلك، لا يمكن لأي مشروع وطني سوري أن يستعيد احتكار الدولة للعنف الشرعي دون إدراك أن حلبة الأمن المحلي هي الساحة الحقيقية التي تُكسب أو تُفقد فيها شرعية الدولة واستمراريتها.

ويدور التنافس الإقليمي اليوم على عقد الأمن المحلي أكثر مما يدور على الجيوش التقليدية. ولكل فاعل أدواته ومساربه إلى الشبكات المحلية، التي يمكن رصدها وتحليلها فيما يلي:

(1) تركيا وأمن الحدود: تتعامل أنقرة مع الشمال السوري كامتدادٍ مباشر لأمنها القومي، عبر ضبط العمق الحدودي، تحييد خصومها، وإدارة تدفقات التجارة واللاجئين. تفعل ذلك عبر رعاية قوى محلية، وبناء أجهزة شرطة / درك بتمويل وتدريب تركيين، وربط الخدمات (المعابر، الكهرباء، العملة النقدية بالتجزئة) بمراكز القرار في ولايات الجنوب التركي. تأثير هذا النموذج أنه يخلق "اعتمادية متبادلة" تجعل القرار الأمني المحلي محسوبًا على الإيقاع التركي، مقابل قبولٍ بقدرٍ من الاستقرار والخدمات. مكمن الخطر أنه قد يوفر قدر من الأمن لنطاق محدد ولكن مسيس، يتبدل مع أي تبدل في العلاقات التركية–السورية أو التركية–الغربية، ويُبقي الهياكل المحلية حذرة من الاندماج الوطني الكامل إن لم تُقدم لها ضمانات سيادية واضحة.

(2) إسرائيل وسياسة العتبة جنوبًا: تشتغل تل أبيب بعقيدة "الضرب بين الحروب" وتوسيع هامش الردع دون إعلان حرب شاملة. حيث تراقب التحركات قرب خطوط وقف إطلاق النار والممرات الحساسة، وتُرسل إشارات تحذيرية كلما شعرت باقتراب تهديد. نفوذها على الأمن المحلي غير مباشر، يتم عبر الضغط بالنار حين يلزم، ورسائل سياسية لحماية مكونات بعينها، ما يدفع قوى محلية إلى تعديل تموضعها تحسبًا. الخطر البنيوي هنا أن أي فراغ أو سوء تقدير قد يحول التدخل الإسرائيلي إلى تصعيدٍ مفاجئ يربك ترتيبات الجنوب، ويضعف ثقة المجتمع المحلي بالمركز إن عجز عن توفير مظلة ردع واضحة وحدود اشتباك متفق عليها.

(3) إيران وتَرِكَة الشبكات والنفوذ الخفيف: على الرغم من تراجع الحضور المباشر وفق السردية الانتقالية، تستمر طهران في ممارسة نفوذ خفيف بهدوء عبر قنوات مدنية ومناطقية مثل شبكات خدمات، جمعيات محلية، واستثمارات عقلية، أثّرت سابقًا في أنماط التسلّح والتحشيد. إلا أن التطورات الأخيرة تُظهر أن نفوذها يواجه ضغوطًا متنامية، لا سيما بعد سقوط نظام "الأسد"، واقتصار قدرتها على دعم أو تحفيز مجموعات محلية – خصوصًا في الساحل أو جنوب سوريا – في إطار محدود. الواقع الجديد اليوم يُظهر تحديًّا أكبر لتعطيل هذا الإرث دون خلق فراغ أمني، عبر مسارات دمج تدريجي ضمن مؤسسات وطنية، وتجفيف مصادر التمويل غير النظامي، مع توفير بدائل اجتماعية–اقتصادية تمكّن من ضرب مرتكزات الشبكات القديمة.

(4) روسيا وأمن الممرات والحلول الترابطية: لم يعد نفوذ موسكو في سوريا متمركزًا على الأرض كما في السابق، بعد سقوط "الأسد". إذ تجري مفاوضات نشطة حول بقائها في قواعدها الجوية والبحرية (حميميم وطرطوس)، ومنحها مصالح اقتصادية، مقابل شروط واضحة من الحكومة الانتقالية في دمشق، مع تدخل روسي في إعادة الإعمار وتقديم دعم محدود للتأهيل الأمني والدفاعي . كما عُقدت اللقاءات الرسمية الأولى بين وزارة الخارجية السورية الجديدة وموسكو، حيث جُرمت العلاقة الدبلوماسية الجديدة ألوانًا من التعاون العسكري والاقتصادي بشروط انتقالية واضحة . يتسم نموذج موسكو اليوم بالابتعاد عن الميليشيات، والاعتماد على تفاهمات رسمية تقنن وجودها عبر أطر انتقالية، شرط ألا تتحول إلى ارتباطات مؤقتة تنهار بتغير السياق الإقليمي.

(5) الاقتصاد السياسي للأمن  من يدفع يوجه: التمويل يشكل المحدد الحاسم لحضور الأمن المحلي. من يمول الرواتب وصيانة المعدات وتقديم الخدمات – مثل الوقود والاتصالات والخبز – يصبح صاحب القول الفصل في مجالس الأمن المحلي. هذا الواقع أعاد إنتاج ما يشبه “مقاولي الأمن”، ممن يقدمون الاستقرار مقابل حصص من المعابر أو الضرائب أو المشاريع. وللتعامل مع هذا الواقع دون التسبب في فراغ أمني خطير، ينبغي العمل على إعادة هيكلة التمويل عبر آليات تدريجية: إنشاء صندوق وطني شفّاف، عقود أمنية انتقالية قابلة للاستبدال بالتوظيف الرسمي، وإنشاء رقابة قضائية وبرلمانية تحوّل دون تحول الأمن إلى امتياز اقتصادي دائم.

سيناريوهات الأمن والسيادة:

يشكل قطاع الأمن المحلي في سوريا إحدى العقد البنيوية في مسار التحول السياسي–المؤسسي. فالمسألة لا تُختزل في إعادة دمج مقاتلين أو ترميم أجهزة شرطية متهالكة، بل تتعلق جوهريًا بقدرة الدولة الانتقالية على استعادة "الاحتكار الشرعي للعنف Weberian Monopoly of Violence" دون تقويض الشرعية الاجتماعية التي تمنح ترتيبات الأمن المحلي فاعليتها اليومية.

وتظهر الخبرات المقارنة (العراق، البلقان، أفريقيا الوسطى) أن إخفاق النظم الانتقالية في تحويل الشبكات المسلحة إلى مؤسسات شرطية وطنية يفضي إما إلى عودة دورات العنف أو إلى تكريس الأمن كاقتصاد سياسي قائم على الريع. من هنا، يقتضي التخطيط الاستراتيجي مقاربة السيناريوهات المحتملة ليس بوصفها احتمالات منفصلة فحسب، بل كمسارات دينامية قد تتقاطع أو تتداخل وفق شروط التمويل، الرقابة القضائية، والهندسة الدستورية لقطاع الأمن. والتي يمكن توضيحها على النحو التالي:

(1) الاندماج المنظّم للشبكات المحلية: يقوم هذا السيناريو على صياغة "خارطة دمج" متعددة المستويات، تشمل: تحويل التشكيلات الحراسية إلى أجهزة شرطة محلية، توحيد السجلات والبلاغات الجنائية، إدخال دورات تدريب موحدة وقواعد لاستخدام القوة، وإنشاء محاكم مختصة بقضايا الأمن. ويواكب ذلك تمويل مركزي مشروط بالشفافية، وتأسيس مجالس أمن محلية برئاسة المحافظ أو القائمقام مع تمثيل مجتمعي، إلى جانب قنوات مساءلة علنية. يوفر هذا السيناريو إمكانية استثمار الشرعية الاجتماعية للشبكات القائمة، مع تقليص ازدواجية السلاح. غير أن نجاحه يظل مرهونًا بوجود قضاء فعال، واستقرار مالي، وآلية واضحة لفض النزاعات بين المركز والمستويات المحلية.

(2) اللامركزية الأمنية المتوازنة: يقوم على الاعتراف بالتباينات الجغرافية – الاجتماعية بين الأقاليم (الجنوب، الشرق، الشمال)، ومنحها "ولايات أمنية" مضبوطة بميثاق وطني، تشمل مكافحة الجريمة، الشرطة المجتمعية، وحماية المنشآت، مع احتفاظ المركز بالدفاع، الحدود، والاستخبارات السيادية. ويتم في هذا السياق تطوير بروتوكولات دوريات مشتركة وقنوات تبادل معلومات مصدقة مركزيًا. قد يسهم هذا النموذج في تقليل الاحتكاكات الحدودية ويتيح للدولة مخاطبًا محليًا مسؤولًا ضمن الإطار الوطني. غير أن هشاشته تكمن في احتمالية تحول الولايات الأمنية إلى إقطاعيات شبه مستقلة في حال تعطّل التمويل الموحد أو غابت الرقابة القضائية.

(3) التمزق المُدار: يشمل استمرار ترتيبات الأمر الواقع، مناطق استقرار جزئي مقابل أخرى هشة، تفاهمات ثنائية مع فاعلين إقليميين، ومجالس أمن محلية غير متجانسة المعايير. ينتج عن ذلك ما يعرف بـ "سلام نقاط" يمنح هدوءًا نسبيًا، لكنه يبقي سيادة الدولة مجزأة ويجعل أي صدمة إقليمية (غارة، أزمة حدود، انهيار تمويل) كفيلة بإعادة إنتاج العنف. كما يترافق مع اقتصاد ظل قوي، وتسييل سياسي للأمن عبر مقايضة الولاء بالخدمات. الاستجابة الممكنة هنا تقتضي قفزة مؤسسية تُوَحّد السجلات الأمنية والمالية وتربطها بمركز معلومات وطني.

الأكثر واقعية في الأفق القصيرأو المتوسط هو صيغة هجينة بين السيناريوين الأول والثاني، اندماج تدريجي مضبوط بالأطر القانونية والتمويل المركزي، مع فسح مجالات لامركزية أمنية في الجنوب والشرق، ضمن ضمانات سيادية (الحدود، الدفاع، الاستخبارات، والسياسة الخارجية). ولكن، يتطلب ذلك التزامات عديدة كالإطار التشريعي الذي ينظم عمل الشرطة المحلية بمعايير موحدة، وصندوق وطني مشروط لتأمين الرواتب، بما يقطع الاعتماد على الموارد غير الرسمية والتمويل الخارجي، وتوفير بروتوكول عمليات مشتركة مع الشركاء الإقليميين بحدد قواعد الاشتباك، ناهيك عن ضرورة تعزيز جهاز القضاء بصيغة مستقلة تمامًا، لتحقيق سرعة الاستجابة وضبط التجاوزات وحماية الحقوق.

وختامًا، يُظهر التنافس الإقليمي على الأمن المحلي أن سوريا اليوم ليست ساحة صراع بين الجيوش فقط، بل هي معركة على شرعية إنتاج الأمن. تركيا وإسرائيل تنافسان عبر أدوات أمنية مباشرة وغير مباشرة، في حين تراجع النفوذ الإيراني إلى نفوذ خفيف محدود، وتفاوضت روسيا على استمرار وجودها ضمن إطار رسمي. وفي المقابل، الاقتصاد السياسي يعني أن من يمول يوجّه. أمام هذا المشهد، يصبح التحدي الوطني الأساسي هو إعادة صياغة الأمن المحلي ضمن إطار شرعي ووطني، عبر دمج البنى المحلية في مؤسسات احترافية، وضمان تمويل ومساءلة شفافة، وبناء جهاز شرطة محلي مدني يؤسس لعقد اجتماعي جديد قوي. وبذلك، يمكن استعادة الدولة لاحتكار العنف الشرعي، وتحويل الأمن من ساحة نفوذ إلى عنصر بناء الدولة.

وإجمالًا، يمكن القول أن إدارة الأمن في سوريا الانتقالية لن تنجح بإلغاء الفاعلين المحليين ولا بتأميمهم قسرًا، بل بتحويل "قوة القرب" التي يملكونها إلى ذراعٍ مؤسسية للدولة، مُمولة بشفافية، مُراقَبة قضائيًا، ومرتبطة بقيادة وطنية موحدة، مع هندسة دقيقة لعلاقات الجوار الإقليمي تمنع تسليع الأمن داخليًا وتحويله إلى ورقة نفوذ خارجي. وبهذه الصيغة فقط يمكن انتشال التوازن الهش من منطقة الاختبار إلى عتبة الاستقرار.

 

قد يهمك