بث تجريبي

فيض فكري في عصر القحط الثقافي

بكثير من الغبطة والاعتزاز، تلقّينا خبر تكريم الدكتور عبد الحسين شعبان في يوم الوفاء الذي تقيمه "دار سعاد الصباح للثقافة والإبداع" بشكل دوري.

هذه الجائزة المرموقة ليست بمستغرَبة على الدكتور شعبان، فلطالما كان مؤثّراً في النسيج الفكري والثقافي للمنطقة العربية، ورائداً من روّاد العلوم السياسية والدراسات الثقافية وحقوق الإنسان، وذا باعٍ طويل في النهوض بالمجتمع العربي.

وهذه الجائزة هي تتويج طبيعي لمسيرة إنسانٍ نشأ على قيم الانفتاح والتسامح والخير والمروءة ونصرة المظلوم والانحياز إلى العدل، وانشغل بقضايا المجتمع والأديان والنزاعات والحروب وحقوق الإنسان.

كما أنّ هذه الجائزة ليست إلا واحدةً من جوائز حازها تتويجاً لمسيرته الحافلة ولمؤلّفاته التي تناصِر الإنسان العربي وحقوقه، وتدعو إلى تفكيك الخلافات بين العرب وإلى نبذ الطائفية والإرهاب والعنف، وتعكس تفانيه في تطوير الفكر العربي.

في تكريم الدكتور شعبان، نحتفي أيضاً بالمُثل التي يجسّدها، فتكريمه ليس شرفاً له هو فحسب، بل احتفاء بالقيم الدائمة للعدالة والمساواة والغنى الثقافي.

رحلة استثنائية

رحلة الدكتور شعبان المتنوّعة المعالم هي خير دليل على قوّته الفكرية والتزامه الراسخ بالعدالة. وقد امتدّت هذه الرحلة لتطال مجالات عديدة، منها العلوم السياسية والدراسات الثقافية وحقوق الإنسان، ولتؤثّر على السياسات العامة وتدفع قدماً إلى تحسين المجتمع.

لقد حظيت مجموعة واسعة من أعمال الدكتور شعبان ودراساته ومقالاته بمكانة متميّزة في الأوساط الأكاديمية والفكرية. ومن أكثر مؤلّفاته جدل الهويات في العراق «الدولة والمواطنة والهوية» و«المواطنة البدائل الملتبسة والحداثة المتعثرة». ففي هذه الكتابات، ومن خلال دراسة الأطر الدستورية والديناميات السياسية، يقدّم الدكتور شعبان رؤية شاملة حول سبُل تلبية احتياجات المجتمع المتعدد الأعراق، ويدعو إلى تحقيق التوازن في السلطة بين الحكومات المركزية والإقليمية لإحلال الحوكمة الرشيدة والاستقرار السياسي في المنطقة. وتشدد دراسات الدكتور شعبان على أهمية الحوار والفهم المتبادل بين أبناء العراق من عرب وأكراد، وتدعو إلى أطر دستورية تحترم حقوق المواطنين جميعاً وترتقي بالعلاقات العِرقية وتسهم في حلّ النزاعات.

ما وراء الحدود العراقية

تجاوز الدكتور شعبان حدود بلده الأم بفكره ورؤيته، ليبلغ المنطقة العربية ككلّ. فقد انكبّ على دراسة النسيج الغني للتراث الثقافي العربي، وسبُل تجديده، وعلاقته بالهوية العربية. وفي كتاباته عن النهضة الثقافية والوحدة العربية، يناقش الدكتور شعبان دور التراث الثقافي في تعزيز الشعور بالهوية العربية المشتركة وتوطيد أواصر الوحدة بين الدول العربية، حاملاً راية نهضة ثقافية قوامُها التقاليد والحداثة في آنٍ واحد. ناهيك عن تخصّصه في القضايا الاستراتيجية العربية التي تمسّ المنطقة العربية ككلّ، وفي القضايا الدولية.

الإسهام في الرؤية العربية 2045

لعلّ أهم مساهمات الدكتور شعبان في السنوات الأخيرة تكمن في المشاركة بإعداد الرؤية العربية 2045 التي تمسّ الحاجة إليها، والتي ترمي إلى رسم خارطة طريق لتحقيق التنمية المستدامة والنهضة الثقافية في العالم العربي بحلول عام 2045. ولا شك في أنّ الأفكار النيّرة للدكتور شعبان وتوصياته كانت محورية في إرساء المبادئ الأساسية للرؤية وضمان تكاملها.

أما هذه المبادئ، فتتضمن تحقيق الأمن والسلامة، وتعزيز العدالة والإنصاف، والنهوض بالابتكار والإبداع، ودفع الازدهار والتنمية المستدامة، والاحتفاء بالتنوع والحيوية، وتجديد التراث الثقافي والحضاري في المنطقة العربية.

تعكس إسهامات الدكتور شعبان في الرؤية العربية 2045 التزامه بتحقيق مستقبل يتشابك فيه الغنى الثقافي والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة بشكل متّسق ومتناغم. والجدير بالذكر أنّ الدكتور شعبان لطالما دعا إلى سياسات تنموية شاملة تقوم على نمو اقتصادي عادل يعود بالمنفعة على قطاعات المجتمع جميعها.

حقوق الإنسان

لم يكتفِ الدكتور شعبان بدراسة قضايا حقوق الإنسان، بل توغّل في تطوير الفهم المتجدّد لهذه القضايا، وساهم عملياً في التخفيف من انتهاكات حقوق الإنسان في مناطق الصراع، من خلال توجيه انتباه المجتمع الدولي إليها وتوثيقها، ولاسيما في صفوف النازحين واللاجئين. وأسهم ذلك في حشد الدعم الدولي للتدخلات الإنسانية والإصلاحات القانونية للسكان المعرّضين للخطر في مناطق الصراعات.

وفي كتاباته عن حقوق الإنسان في العالم العربي، يقدّم الدكتور شعبان تحليلاً نقدياً لممارسات حقوق الإنسان في المنطقة العربية، ويرسم خارطة طريق للإصلاحات القانونية والمؤسسية لحماية هذه الحقوق، ويحثّ، بلا كلل، على تعزيز الإصلاحات القانونية الكفيلة بالنهوض بحقوق الإنسان وحمايتها.

لم تقف جهود الدكتور شعبان لصالح حقوق الإنسان عند حدّ نظريّ، بل عمل على تطبيق ممارسات حقوق الإنسان من خلال مشاركته مع المنظمة العربية لحقوق الإنسان، مدافعاً عن حرية التعبير، وحقوق الأقليات، والقضاء على التعذيب والمعاملة غير الإنسانية. ولعب دوراً محورياً في صياغة وتنفيذ العديد من المواثيق والإعلانات الخاصة بحقوق الإنسان في المنطقة العربية.

وشارك الدكتور شعبان في العديد من المؤتمرات والندوات الدولية، حيث قدم أوراقاً حول قضايا حقوق الإنسان وشارك في مناقشات مع خبراء حقوق الإنسان العالميين. لقد كانت جهوده أساسية في تسليط الضوء على أهمية الأطر القانونية التي تضمن حقوق الأفراد وتكفل المساءلة.

المشاركة في المشهد الثقافي

لقد أثرى الدكتور شعبان، من خلال برامج ومبادرات ثقافية متنوّعة، الحياة الفكرية والثقافية العربية، مقدّماً أفكاره ورؤاه حول شتى القضايا، انطلاقاً من التزامه بتعميق الفهم العام للهويّة والثقافة العربية.

إن قدرته على التواصل مع جماهير متنوعة، والتزامه بتعزيز الحوار والتفاهم جعله شخصية مقدّرة في المجتمع الفكري العربي. ويذكرنا عمل الدكتور شعبان بأهمية تعزيز ثقافة الفضول الفكري والاحترام العميق لكرامة الإنسان.

مصدر إلهام

كانت أعمال الدكتور شعبان ورؤاه، ولا تزال، مصدر إلهام للكثيرين. فلطالما كان لالتزامه الراسخ بالسعي وراء المعرفة تأثير عميق على المسيرة الفكرية لمواطني المنطقة بأسرها. وهو يرى أن السعي وراء المعرفة هو رحلة غير متناهية، وأن العمل على تحقيق العدالة نضال يتطلب التزاماً ثابتاً لا هوادة فيه. تلخص هذه الكلمات فلسفته وعمله طوال حياته، وتعمل كمبدأ توجيهي لكل من يسعى إلى إحداث تأثير إيجابي على المجتمع.

اقتباسات عن فلسطين ومقاومة الاحتلال

يقول الدكتور شعبان: «إنّ ما يحدث في غزة هو جريمة مكتملة الأركان، وحرب إبادة جرت فيها انتهاكات سافرة ضد الإنسانية»، مشدّداً على أنّ «الشعب الذي لا يقاوم محتلّيه إنما هو شعب من العبيد»، وداعياً إلى المقاومة الثقافية «لفضح الرواية الإسرائيلية وتأكيد زيفها وبطلانها، ولاسيما في المحافل الدولية».

اقتباسات عن العروبة

من أقوال الدكتور شعبان المأثورة: «إنّ العروبة هي مشروع بحاجة إلى عمل مستقبلي خارج دوائر الأيديولوجيا والسياسة»، وإنّه «لا بد من مصالحات تاريخية، ونشر ثقافة الحوار والتسامح والسلام وقبول الآخر وتعميقها».

ويؤكّد الدكتور شعبان أنّ «الدولة التي نحتاج إليها في العالم العربي هي التي تقوم على قاعدة المواطنة السليمة والمتكافئة وحكم القانون، وأنّه بالطبع لا مواطنة حقيقية دون حريات وشراكة ومشاركة ومساواة وعدالة، ولاسيما عدالة اجتماعية في حدها الأدنى. وستكون المواطنة ناقصة ومبتورة مع الفقر، وتمثّل هذه المعايير بالتدرّج والتراكم والتطوّر السبيل لتحقيق الدولة-الأمة، فثمّة فوارق كبيرة بين السلطة والدولة، فالسلطة متغيّرة، أمّا الدولة، فهي باقية».

وكما يقول: إنّ «العرب ليسوا بحاجة إلى الديمقراطية، بقدر حاجتهم إلى التنمية».

خاتمة

في ظلّ القحط الفكري الذي يعيشه العالم العربي نتيجة لعوامل تاريخية بدَهية ولخضّات متتالية على مختلف الصعُد، يبرز الدكتور عبد الحسين شعبان قامةً شامخةً جديرة بكل تقدير واحترام، ومِثالاً يُحتذى للتقدم بالمنطقة العربية على مسار التنمية الإنسانية والثقافية والفكرية والاجتماعية.

----------------------------

مساهمة الدكتورة رولا دشتي في كتاب جمر الحروف الذي صدر عن دار سعاد الصباح تكريمًا لدكتور عبد الحسين شعبان في يوم الوفاء 2024.

ود. رولا دشتي وزيرة سابقة (الكويت) - الأمينة التنفيذية للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا – الإسكوا.

قد يهمك