يشكّل كونفرانس وحدة الموقف لمكونات شمال وشرق سوريا الذي انعقد في مدينة الحسكة محطة فارقة في المشهد السوري، ليس بوصفه حدثاً سياسياً عادياً، بل باعتباره خطوة عملية لترسيخ حقيقة أن التعددية في سوريا ليست خياراً طارئاً أو حالة مستوردة، بل هي جوهر الهوية السورية عبر التاريخ. الكونفرانس لم يكن مبادرة فوقية أو مشروعاً موجهاً من الخارج، بل جاء من رحم المجتمع المحلي، معبّراً عن إرادة شعبية تسعى لإعادة الاعتبار لقيم الحوار والشراكة والمستقبل المشترك، في مواجهة عقلية الإقصاء التي أرهقت البلاد لعقود.
هذا الكونفرانس قدّم إجماعاً سورياً داخلياً على ضرورة بناء مشروع وطني جامع، بعيداً عن المحاور الخارجية. وجاء في بيانه الختامي التأكيد على التمسك باتفاقية 10 آذار باعتبارها خطوة بنّاءة نحو التوافق الوطني، وكذلك الدعم الواضح لمسار باريس التفاوضي كأحد المسارات السياسية الهادفة إلى تحقيق تسوية شاملة، إضافة إلى التأكيد على ضرورة صياغة دستور ديمقراطي جديد يكرّس التعددية القومية والدينية والثقافية، ويؤسس لدولة لا مركزية تضمن المشاركة الحقيقية لجميع المكونات في العملية السياسية والإدارية.
ومع ذلك، جاء الرد من دمشق على شكل هجوم لفظي واتهامات وتحريض، في مشهد يثير تساؤلات حول أسباب الخوف من مبادرة محلية قائمة على الحوار، وهل المشكلة الحقيقية تكمن في مضمون الكونفرانس أم في كونه يفتح الباب أمام نمط سياسي جديد يهدد عقلية الاحتكار القديمة؟
على مدار سنوات، تُوجَّه لمناطق شمال وشرق سوريا تهمة النزعة الانفصالية، لكن هذه التهمة بقيت بلا أي أساس واقعي. لم تُطرح مسألة الانفصال في أي لقاء رسمي مع دمشق، ولا مع أي طرف دولي، ولم تكن يوماً جزءاً من أجندة المكونات المحلية. حتى في أوقات التوتر السياسي، بقي النقاش متمحوراً حول ضمان صيغة وطنية عادلة، لا حول الانفصال أو التقسيم. ومع ذلك، تواصل بعض الجهات إحياء هذه التهمة كلما ظهرت مبادرة للحوار أو مشروع للتشارك، وكأن الغاية هي تقويض أي مسار بديل عن الإقصاء.
إن إنكار حالة التعدد وعدم الاعتراف بها لا يخدم استقرار البلاد، بل يعزز منظومة الاستبداد التي ضاق بها السوريون لعقود طويلة. سوريا، بتكوينها الاجتماعي والثقافي، بلد غني بالتنوع القومي والديني والثقافي، وهذا التنوع هو ثروة سياسية إذا ما أُحسن استثماره، وخطر إذا ما جرى تجاهله أو محاربته. والمفارقة أن دمشق، بدلاً من استثمار هذا الغنى البشري، مضت في خطوات عملية كرّست الانفراد بالقرار، بدءاً من الإعلان الدستوري الذي صيغ بطريقة لا تتسق مع التعددية الوطنية السورية، وصولاً إلى القرارات التي تحدد شكل مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية بطريقة تُقصي المكوّنات من المشاركة الفعلية. هذه السياسات، وليس كونفرانس الحسكة، هي التي تُشكّل التهديد الحقيقي لوحدة سوريا ومستقبلها.
كما أن التجارب الدولية والإقليمية أثبتت أن الاستقرار الدائم لا يتحقق بالقوة الأمنية ولا بسياسة الإقصاء، وإنما عبر بناء عقد اجتماعي جديد يستند إلى الاعتراف المتبادل وضمان الحقوق المتساوية. المؤتمرات الشعبية، مثل هذا الكونفرانس، تُعبّر عن حاجة مجتمعية لكسر جدار الانقسام، وتحويل الاختلافات إلى أداة للتكامل لا للصراع.
في النهاية، فإن مستقبل سوريا لن يُرسم عبر الاتهامات المتبادلة ولا عبر إحياء الخطابات القديمة التي فشلت في حماية البلاد من الانهيار، بل عبر الجرأة على مواجهة الحقائق: أن التنوع هو جوهر الهوية السورية، وأن الشراكة الوطنية هي الطريق الوحيد لبناء دولة عادلة، وأن الحوار بين المكونات ليس تهديداً بل ضمانة للسلام. كونفرانس وحدة الموقف لمكونات شمال وشرق سوريا لم يكن سوى خطوة أولى في هذا الطريق، لكنه كشف بوضوح أن الأمل ما زال موجوداً، إذا ما توفرت الإرادة السياسية لاحتضانه بدلاً من محاربته.
من زوايا العالم