منذ أن تولّى أحمد الشرع منصب رئيس الجمهورية العربية السورية، ورافقه أسعد الشيباني وزيرًا للخارجية، دخلت هيئة تحرير الشام مرحلة جديدة تعد الأخطر منذ تأسيسها. هذه المرحلة اتسمت بصراع داخلي متصاعد بين القيادة السياسية العليا من جهة، والقيادات العسكرية الميدانية من جهة أخرى.
أحمد الشرع، بحكم موقعه، يواجه ملفات شائكة ترتبط بمصالح قوى دولية وإقليمية كبرى: الولايات المتحدة، تركيا، السعودية، إسرائيل، وحتى روسيا التي تعدها الهيئة خصمًا رئيسيًا. هذه الدول، ولكل منها أجندتها الخاصة، تفرض شروطًا وضغوطًا مقابل تقديم أي دعم سياسي أو اقتصادي أو أمني.
بالنسبة للشرع والشيباني، هذه الضغوط ليست مجرد خيار، بل واقع سياسي لا يمكن تجاهله إذا أرادا الحفاظ على الحكم، وتأمين بقاء مؤسسات الدولة، وتجنب عزلة دولية خانقة. ولهذا السبب، يقدمان وعودًا لهذه الدول بتنفيذ إجراءات محددة تحقق مصالحها في سوريا.
لكن في المقابل، هناك قيادات عسكرية داخل الهيئة ترى أن هذه الوعود والاتفاقات تمثل تجاوزًا صريحًا للمبادئ الأساسية التي تأسست عليها الهيئة، وهي مبادئ العقيدة الجهادية السلفية التي ترفض أي شكل من أشكال التعاون أو التفاهم مع “قوى كافرة” — بحسب المفهوم الذي يتبناه هؤلاء القادة.
هذه القيادات تتهم الشرع والشيباني بالتفريط بالمبادئ مقابل البقاء في السلطة، وترى أن هذا النهج يخدم أجندات القوى الكبرى على حساب “الرسالة الأصلية” التي قامت عليها الهيئة. الخلاف هنا لا يبقى في إطار الجدل الداخلي، بل يتطور أحيانًا إلى أعمال عنف وجرائم وتجاوزات، ينفذها بعض القادة والمقاتلين للتعبير عن رفضهم. وتشمل هذه التجاوزات عمليات ميدانية غير منسقة أو قرارات منفردة، كما حدث في الهجوم الأخير على حفلات أعراس في إدلب وحمص، وهي أحداث تضر بصورة الهيئة وتضعف قدرتها على ضبط المشهد الداخلي. لطالما اعتمدت الهيئة على حاضنة شعبية تمنحها الشرعية والدعم الاجتماعي والسياسي. لكن مع تصاعد الانقسام بين القيادة السياسية والقيادات العسكرية، أخذت هذه الحاضنة في التراجع، وبدأت قطاعات من المجتمع ترى أن الهيئة فقدت ثوابتها، وأن قراراتها باتت تُصاغ تحت تأثير الخارج.
استمرار هذا التوتر دون حلول حقيقية قد يقود إلى انفجار داخلي داخل الهيئة، يصل إلى انشقاقات واسعة، وهو ما لن يضعف الهيئة وحدها، بل قد يؤدي إلى تفكك مناطق السيطرة، وخلق فراغات أمنية، وربما تسريع مخطط تقسيم سوريا بالشكل الذي تسعى إليه قوى الهيمنة العالمية.
إن ما يجري اليوم داخل هيئة تحرير الشام ليس خلافًا عابرا، بل هو صراع على هوية ودور الهيئة نفسها:
هل ستكون كيانًا سياسيًا يسعى للبقاء في السلطة عبر التفاهمات مع القوى الخارجية؟
أم ستبقى جماعة عقائدية ترفض أي تنازل عن مبادئها مهما كان الثمن؟
الجواب على هذا السؤال سيحدد مستقبل الهيئة، وربما مستقبل سوريا بأكملها؛ فإذا واصل الشرع والشيباني تقديم التنازلات للخارج دون القدرة على إقناع الداخل، فإن الانفجار قادم لا محالة، ومعه خطر تفتيت البلاد إلى كيانات ومناطق نفوذ تُرسم حدودها وتُدار شؤونها وفق مصالح وأجندات القوى الدولية.
من زوايا العالم
منبر الرأي
منبر الرأي