عندما تصبح المرأة شريكة في القرار يتغير شكل المجتمع، ونظام الرئاسة المشتركة ليس مشروعاً خاصاً بالمرأة، بل هو مشروع تحرر إنساني شامل، يسعى لبناء مجتمع ديمقراطي تتشارك فيه كل الفئات في صنع الحياة.
في زمن يسود فيه النماذج السياسية السلطوية والهرمية، ينبثق من قلب روج افا نموذج يعيد تعريف السلطة، ليس فقط من حيث توزيعها، بل من حيث جوهرها الفلسفي والأخلاقي، ونظام الرئاسة المشتركة الذي طبق بداية في مؤسسات الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا لم يكن مجرد إجراء تنظيمي يهدف لتحقيق توازن شكلي بين الجنسين، بل كان وما زال ثورة فكرية واجتماعية تهدف إلى إعادة توزيع القوة بين المرأة والرجل على أسس العدالة والمساواة والتحرر.
كسر السلطة الذكورية
لعدة قرون، بقيت السلطة حكراً على الذكر، سواء في العائلة أو الدولة أو المؤسسة. ورغم التحولات الاجتماعية الكبرى، بقيت المرأة مغيبة عن مواقع القرار. لكن ما إن تم تبني نظام الرئاسة المشتركة، حتى بدأت بنية السلطة الذكورية تتصدع من الداخل، فمبدأ أن كل منصب إداري أو سياسي يجب أن يدار من قبل رجل وامرأة معاً، على قدم المساواة، ألغى تلك الثنائيات التقليدية (الزعيم/المساعدة، الرئيس/الظل) وخلق ثنائية قيادية تشاركية متكاملة، تحفز الحوار وتقلص التسلط، وفي هذا السياق، قال القائد عبد الله أوجلان: "تحرر المرأة هو تحرر المجتمع. إذا لم تتحرر المرأة، لا يمكن للرجل أن يتحرر، ولا يمكن للمجتمع أن ينهض من عبودية السلطة."
ليس تقاسماً للمناصب، بل إعادة تعريف للقيادة
يعتقد البعض خطأً أن الرئاسة المشتركة هي مجرد تقاسم وظيفي بين الجنسين لكن جوهر هذه الفلسفة يتجاوز ذلك بكثير إنها منهجية في التنظيم السياسي والأخلاقي للمجتمع، فحين تشارك المرأة في اتخاذ القرار، لا فقط موجودة جسدياً، بل تكون جزءاً من إنتاج السياسة وصياغة الموقف، كما أن هذا النموذج يقطع الطريق على الاستفراد بالسلطة ويحلق نوعاً من الرقابة المتبادلة التي تضمن الشفافية والمساءلة، القائد عبدالله أوجلان شدد مراراُ على أن "المرأة هي أول مستعمرة في التاريخ لذا أولى خطوات الثورة تبدأ بتحرير المرأة ". وبالتالي، فأن منحها دوراً قيادياً مشتركاً لا يعد منّة، بل هو تصحيح لمسار تاريخي طويل من الإقصاء.
المرأة كفاعل ثوري لا كضحية
أبرز ما في نظام الرئاسة المشتركة، أنه حول المرأة من موقع الضحية إلى موقع الفاعل السياسي والاجتماعي، لم تعد النساء يطالبن بحقوقهن كطرف ضعيف، بل أصبحن يعدن بناء المجتمع انطلاقًا من رؤيتهن الخاصة، القائمة على العدالة المجتمعية والسلام والمساواة. وقد أثبتت التجربة في شمال وشرق سوريا أن مشاركة المرأة في القيادة، خاصة ضمن الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، أعطت نموذجاً فريداً في كيفية إعادة إعمار المجتمع على أسس ديمقراطية.
من الثورة إلى التأسيس: آفاق مستقبلية
اليوم، وبعد أكثر من عقد على انطلاقة هذا المشروع، بات من الضروري الانتقال من مرحلة التثبيت المؤسساتي إلى مرحلة التوسيع الاجتماعي، ويجب ألا يبقى نظام الرئاسة المشتركة محصوراً في المجالس السياسية، بل يجب أن يتم تطبيقه في المدارس، البلديات، النقابات، وحتى داخل الأسرة، فالمجتمع الذي يُدار من قبل طرف واحد، غالباً ما يُنتج العنف والإقصاء، بينما المجتمع التشاركي هو مجتمع يملك فرصاً أكبر للسلام والتطور.
وفي هذا السياق أكدت الرئيسة المشتركة لحركة المجتمع الديمقراطي (TEV-DEM)، رمزية محمد، أن نظام الرئاسة المشتركة لا يعد تجربة حديثة أو مستوردة، بل هو نموذج ثوري أصيل انبثق من صميم ثورة روج آفا في شمال وشرق سوريا، التي كان من أبرز شعاراتها تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة الجندرية، وإعادة تشكيل البنية السياسية والاجتماعية بما ينسجم مع مبادئ الديمقراطية الجذرية.
وقالت رمزية: "بدأ تطبيق نظام الرئاسة المشتركة منذ الأيام الأولى لانطلاقة الثورة، وتم اعتماده كقاعدة تنظيمية في كل المجالس والمؤسسات، بدءاً من الكومينات وصولاً إلى هيئات الحكم الذاتي، هذا النظام بات نموذجاً عالمياً يُحتذى به، لأنه يمثل إحدى أكثر الوسائل فعالية في تجاوز إرث سلطة الهيمنة الذكورية المركزية التي سادت عبر قرون من الإقصاء والتهميش، وفتح الباب أمام مشاركة المرأة ليس فقط في الحياة السياسية، بل في صياغة القرار والمصير المشترك."
وأضافت: "الرئاسة المشتركة ليست فقط مسألة تنظيمية أو شكلية، بل هي ممارسة فعلية لتقويض النظام الأبوي التقليدي الذي حصر السلطة والقرار في يد الرجل. من خلال هذا النظام، أثبتت المرأة أنها قادرة على القيادة والإدارة والتنظيم، وأظهرت أنها قوة اجتماعية وثقافية وسياسية لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها."
وأشارت رمزية إلى أن هذا النموذج يجب ألا يحصر في المجال السياسي فقط، بل يجب أن يرسخ في جميع مفاصل الحياة، قائلة: "نحن بحاجة إلى توسيع هذا المفهوم ليشمل الأسرة، المدارس، الحياة الاقتصادية، والإعلام، لأن تحقيق العدالة يبدأ من العلاقات اليومية التي نعيشها. عندما تكون المرأة شريكة حقيقية في صنع القرار على كافة المستويات، يمكننا الحديث عن مجتمع متوازن، متحرر من النزعات التسلطية والعنف القائم على النوع".
القصة كاملة