في عالم مضطرب يعاد تشكيل خرائطه الجيوسياسية والإنسانية، يطرح المجتمع الكردي رؤية مغايرة لمفاهيم النضال والهوية والسياسة، رؤية تنطلق من رحم الألم لتؤسس لثقافة سلام قائمة على الحداثة الديمقراطية والعيش المشترك.
يمثل اقتران مفهومي السلام والمجتمع الديمقراطي نقطة انعطاف في مسار القضية الكردية، ومرحلة جديدة من النضال ترتكز على قيم الحداثة الديمقراطية، لا بوصفها مشروعًا سياسيًا فحسب، بل كأفق إنساني شامل يعيد تعريف الهوية والانتماء ضمن إطار "الوطن المشترك" و"التعددية الخلاقة". ففي قلب هذا التحول، لا يعود الوجود الكردي مجرد مطلب عرقي أو جغرافي، بل يصبح فعلاً فاعلاً في تشكيل عقد اجتماعي جديد، يرتكز على النيات الإنسانية واتساقها في بناء الأمن والسلام العالميين، وتفكيك منظومات الإقصاء والتهميش، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي.
إن الدعوة إلى السلام لا تنفصل عن نضج الوعي الديمقراطي في المجتمع الكردي، ذلك الوعي الذي تجاوز فكرة الصراع لصالح مفاهيم التعاون، وبناء آليات حكم محلي تستند إلى العدالة الاجتماعية، والمساواة الجندرية، واحترام التنوع الثقافي والديني، في محاولة لرأب الشرخ بين الأبعاد القومية والمواطنة الإنسانية.
تحوّل في التموضع السياسي
إنّ بروز المجتمع الديمقراطي الكردي في فضاء السياسة الإقليمية لا يُعدّ مجرد تحوّل داخلي في بنية النضال الكردي، بل يمثل إعادة تموضع جوهرية داخل مشهد سياسي مأزوم، تتنازعه الصراعات والهويات القاتلة. فبدلًا من التماهي مع مشاريع قومية انعزالية أو استراتيجيات المحاور الدولية، يطرح الحضور الكردي الجديد رؤية تتجاوز ثنائية المركز والهامش، وتسعى لإرساء نموذج تعايشي يُبنى من القاعدة إلى القمة، ومن المجتمع إلى الدولة، على أساس اللامركزية، والعدالة، والتنمية المستدامة.
ومن هذا المنطلق، يتحول الفاعل الكردي إلى صانع سلام، لا فقط لطرف سياسي أو قومي، بل كمكوّن أصيل في هندسة سلام مستدام في الشرق الأوسط، خاصة في ظل فشل أنظمة الدولة القومية التقليدية في تحقيق الحد الأدنى من الأمن الإنساني. وهنا تبرز الحاجة الماسّة إلى اتساق النيات الإنسانية بين الشعوب والنخب السياسية، لإعادة بناء المفاهيم الكونية للسلم، بعيدًا عن النفعية الجيوسياسية أو المعايير المزدوجة.
أفق أخلاقي وفلسفي جديد
إنّ هذا التحول في الخطاب الكردي، من المقاومة المسلحة إلى بناء المجتمع الديمقراطي، ليس فقط خيارًا سياسيًا، بل تعبير عن نضج فلسفي عميق يتقاطع مع القيم الكونية لحقوق الإنسان. ففي خضم عالم يعاد تشكيله على وقع الأزمات المناخية، والنزاعات المسلحة، والانهيارات الأخلاقية للمنظومات الدولية، تصبح فكرة "السلام" مسؤولية تتجاوز الجغرافيا والعرق، وتتطلب ارتقاءً أخلاقيًا يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والسلطة، بين الهويات والانتماءات، بين الحرية والمسؤولية.
وفي هذا السياق، يقدّم النموذج الكردي في بعض مناطقه تجربة فريدة في إدارة التنوع، وتحقيق التوازن بين الحداثة والعدالة الاجتماعية، وبين الخصوصية الثقافية والكونية الحقوقية. وهي تجربة لا تخلو من التحديات، لكنها تفتح أفقًا حيويًا لقراءة جديدة للسلام، لا بوصفه هدنة مؤقتة، بل فعل مقاومة متجدد ضد الاستبداد، وضد كل أشكال العنف الرمزي أو المؤسسي.
خاتمة: من المحلية إلى الكونية
وهكذا، فإن الدعوة إلى المجتمع الديمقراطي الكردي ليست مجرد مطلب محلي، بل صدى عميق لحاجة العالم إلى صيغ بديلة من التعايش، تؤمن بأنّ السلام لا يُفرض من فوق، بل يُبنى من داخل الإنسان والمجتمع، باتساق النية مع الفعل، والرؤية مع الممارسة.