شهدت الساحة السياسية في سوريا، منذ اندلاع الأزمة عام 2011، تحولات عميقة، كان أبرزها صعود قوى محلية غير تقليدية، منها القوى الكردية التي فرضت نفسها لاعبًا رئيسيًا، خاصة في شمال وشرق البلاد. وفي هذا السياق، برزت مبادرة "مؤتمر وحدة الصف الكردي" كمحاولة لتوحيد الجهود السياسية والعسكرية بين مختلف التيارات الكردية، في ظل تعقيدات داخلية وضغوط خارجية.
يمثل الكُرد في سوريا واحدة من أبرز المكونات العرقية، وتمركزهم الجغرافي في مناطق حساسة، إضافة إلى تجربتهم في إدارة مناطقهم منذ انسحاب النظام السوري جزئيًا من بعض المحافظات في عام 2012، جعلهم طرفًا فاعلًا لا يمكن تجاهله. غير أن الانقسام السياسي بين "حزب الاتحاد الديمقراطي" (PYD)، المسيطر فعليًا على مناطق الإدارة الذاتية، و"المجلس الوطني الكردي" (ENKS)، المدعوم من إقليم كردستان العراق والمعارضة السورية، ظل عقبة كبيرة أمام وحدة الموقف الكردي.
بعد عام 2012، وحتى انعقاد مؤتمر وحدة الصف والموقف الكردي، بدأت لقاءات ومشاورات بين الطرفين برعاية أمريكية وفرنسية غير مباشرة، نتج عنها أطر تشاركية ووثيقة سياسية موحدة آنذاك. لكن التدخلات التركية، وقرب المجلس الوطني الكردي من أنقرة، شكّلا عائقًا أمام تحقيق الوحدة الكردية.
بعد 8 ديسمبر، ومع تغيّر الأوضاع السياسية في سوريا، وجد الكُرد فرصة سانحة للمطالبة بحقوقهم، وهو ما تطلب توحيد الصف والموقف الكردي. لذلك، عُقد مؤتمر في مدينة قامشلي (قامشلو بالكردية)، أُطلق عليه "مؤتمر وحدة الصف والموقف الكردي"، بهدف تقريب وجهات النظر، وتوحيد الصفوف، وتشكيل وفد تفاوضي مشترك. تركزت محاور النقاش حول آليات تقاسم السلطة، إدارة الموارد، قضايا الأمن والتعليم، وسبل تمثيل الكرد في المفاوضات المتعلقة بمستقبل سوريا الجديدة.
جاء هذا المؤتمر في ظل تطورات متسارعة، ومحاولات تركية لفرض وصايتها على دمشق، والسعي إلى تحجيم دور الكرد ومنعهم من الحصول على حقوقهم، وهو ما زاد من الحاجة إلى موقف كردي موحد يواجه هذه التهديدات. كما أدركت الأطراف الكردية أن استمرار الانقسام يخدم القوى المعادية لمطالبهم، ويُضعف موقفهم في أي حل سياسي قادم.
كان للمؤتمر تأثيرات مباشرة على الأوضاع السورية. فعلى المستوى السياسي، عزز من حضور الكرد كمكون أساسي في المعادلة السورية، وفتح الباب أمام إمكانية مشاركتهم الفعلية في صياغة مستقبل البلاد، سواء من خلال اللجنة الدستورية أو غيرها من الأطر الدولية. كما أضعف من ذرائع بعض القوى الإقليمية، كتركيا، التي كانت تبرر تدخلها بوجود "قوى انفصالية متطرفة" في شمال سوريا.
أما على المستوى الأمني، فقد ساهمت خطوات التقارب الكردي - الكردي في تخفيف حدة التوترات الداخلية، وخلق نوع من الاستقرار النسبي في مناطق الإدارة الذاتية. كما ساعدت هذه الوحدة على تركيز الجهود في محاربة تنظيم "داعش"، ومواجهة أي تهديدات محتملة، بدلًا من النزاعات الداخلية التي كانت تُهدر الطاقات والموارد.
ونعتقد أن موقف السلطة الانتقالية لم يكن موفقًا في رفض المؤتمر والرؤية الكردية بشأن كيفية حصولهم على حقوقهم، وكيفية بناء سوريا الجديدة. والصحيح هو أن يكون هناك حوار وطني جامع بين جميع مكونات الشعب السوري، للوصول إلى دستور توافقي يصون حقوق كل المكونات، وبذلك يتحقق الأمن والاستقرار في البلاد، وتُحمى وحدة سوريا وسيادتها.
إلا أن الطريق أمام هذه الوحدة لم يكن سهلًا. فقد اصطدمت المبادرة بواقع معقد، أبرز ملامحه تدخلات إقليمية متناقضة، وعدم وجود موقف موحد من النظام السوري تجاه القضية الكردية، فضلًا عن اختلاف المرجعيات الفكرية بين القوى الكردية نفسها؛ فبينما يتبنى "PYD" توجهًا قائمًا على الفكر الأوجلاني، يقترب "ENKS" من التيار القومي الكردي التقليدي، المتأثر بأحزاب كردستان العراق.
في المحصلة، يُعد مؤتمر وحدة الصف الكردي خطوة مهمة نحو بناء موقف كردي جامع، قادر على المساهمة الفعالة في أي حل سياسي شامل في سوريا. ويظل الحوار الداخلي، رغم صعوبته وتحدياته، هو السبيل الأنجع لتجاوز الخلافات، وتحقيق مصالح الشعب الكردي ضمن إطار سوري موحد. غير أن نجاح هذا المشروع يبقى مرهونًا بإرادة الأطراف الكردية، وقبول دمشق، ودعم المجتمع الدولي، والتوصل إلى تفاهمات تضمن مشاركة حقيقية لجميع مكونات المجتمع السوري في المستقبل السياسي للبلاد.