بث تجريبي

استراتيجية المرحلة... إنشاء المجتمع الديمقراطي

 

يظهر في الاستراتيجية الجديدة للحركة الآبوجية أن إنشاء المجتمع الديمقراطي وممارسة السياسة الديمقراطية بريادة المرأة الحرة، كركائز وفلسفة حياتية، سيكون لها الصدارة في التوجه والعمل لبناء الحياة الحرة.

نحاول في هذا المقال الاقتراب من فهم التحول والتغيّر الحاصل ضمن الحركة الآبوجية أو الحالة النضالية الكردية، وخاصةً في أكبر وأهم هياكلها وأحزابها (حزب العمال الكردستاني)، وأدواتها، ورؤيتها لحل القضية الكردية، وبناء حياة حرة ومستقرة، وبالتالي الوصول إلى السلام المنشود القائم على الحرية والديمقراطية.

في 27 شباط جاء نداء "السلام والمجتمع الديمقراطي"، أو كما تم وصفه بـ "مانيفستو الديمقراطية"، من قبل المفكر والقائد عبد الله أوجلان، والذي تضمّن -وفق فهمنا- البدء باستراتيجية جديدة تراعي التطورات الإقليمية والدولية، وظروف الحرب العالمية الثالثة، مع قراءة القائد أوجلان للتاريخ الكوني والإنساني، ومراجعاته للعقلية والذهنية، وللأدوات المناسبة القادرة على تحقيق الحلول الديمقراطية والسلمية المستدامة، والوصول إلى الحرية، وإعادة العلاقات التاريخية بين الشعوب، واحترام الهويات، وحرية التعبير والتنظيم، والبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تستند إليها كافة الفئات.

وحينها تم الإشارة أن ذلك ممكن عبر استراتيجية إنشاء المجتمع الديمقراطي، ووجود مجال سياسي ديمقراطي بديل عن مشاريع وأجندات منظومة الهيمنة العالمية، التي تظل بعيدة عن مصالح الشعوب وحل قضاياهم العالقة.

في بداية شهر آذار، أعلن حزب العمال الكردستاني وقف إطلاق النار تلبيةً لنداء القائد أوجلان، وتمهيدًا للمرحلة الجديدة. وخلال الفترة من 5 إلى 7 أيار، عقد الحزب مؤتمره الثاني عشر، حيث قام الحضور بتقييم مسيرة الحزب الممتدة لـ 52 سنة، وأكّدوا أن الحزب -من خلال نضاله-هزم سياسة الإنكار والإبادة بحق الشعب الكردي، وأوصل القضية الكردية إلى نقطة الحل عبر السياسة الديمقراطية. ومن هذه الزاوية، أكمل الحزب مهمته التاريخية.

بناءً عليه، اتخذ المؤتمر الثاني عشر قراراتٍ بحل الهيكل التنظيمي للحزب، وإنهاء أسلوب الكفاح المسلح، ووقف الأنشطة التي كانت تُمارس باسم حزب العمال الكردستاني، وذلك من أجل تسيير العملية التطبيقية من قبل القائد آبو للبدء بمرحلة جديدة.

من المهم فهم قرار المؤتمر ونداء القائد أوجلان بشكل سليم، بعيدًا عن التشويش والحرب الخاصة التي تمارسها تركيا، وكذلك بعض الاتجاهات الأحادية من التيارات القومية في دول المنطقة، بما فيها الكردية، التي تحاول التقليل من شأن التحول المهم وعدّ التحول وكأنه نتيجة حالة من الضعف والهشاشة، في حين أن التغير والتجديد والبناء بشكل جديد هو من سنن الحياة والنجاح والاستمرارية بشكل أقوى.

نعتقد أننا أمام تحوّل كبير ومرحلة جديدة يحاول القائد أوجلان تأسيسها، رغم كل الصعوبات وظروف السجن الذي يقبع فيه منذ 26 عاماً. وبذلك تتحدد استراتيجية المرحلة على أساس بناء بنى مؤسساتية ومعنوية جديدة، تدفع بالدولة التركية والمجتمع الدولي لاتخاذ خطوات جدية نحو حل ديمقراطي للقضية الكردية، وللتحول الديمقراطي وحل مشاكل شعوب الشرق الأوسط، عبر إنشاء المجتمع الديمقراطي التكاملي والكلياتي، الذي يتجاوز العِرق والدين والمذهب واللون، ويعتمد على بناء ذهنية تشاركية وإرادة حرة ومؤسسات تعبر عن إرادة المجتمع.

من أبرز مميزات وخصائص المرحلة الجديدة هو التحرك والبناء وفق فلسفة "المرأة، الحياة، الحرية"؛ أي ريادة المرأة، وحضورها وقيادتها لمختلف مجالات الحياة، لا سيما السياسية والاقتصادية والثقافية والمجتمعية. فالديمقراطية والعدالة لا تتحققان من دون مشاركة فعالة للمرأة المنظمة والواعية، المعبرة عن ذاتها وذات المجتمع.

أما الشباب، فهم عنصر أساسي في هذه المرحلة، لا سيما أولئك الذين يمتلكون الطاقة والإرادة لبناء حياة جديدة تحقق أمانيهم وأهدافهم المجتمعية.

وقد أشار المؤتمر الأخير لحزب العمال الكردستاني بوضوح إلى "اشتراكية المجتمع الديمقراطي"، المعتمدة على الكومين والمجلس والجمعية وهي الاشتراكية القائمة على الديمقراطية والتي تحقق التوازن بين الحرية الشخصية والمجتمعية وتجلب الانتصار، خلافًا لـ "اشتراكية الدولة القومية" التي تقود إلى الانهيار والفناء والمعتمدة على سلطوية الدولة وأجهزتها والفردانية وليس المجتمع. وهنا ينبغي فهم انتقادات القائد أوجلان للاشتراكية المشيدة واشتراكية الدولة القومية، التي تحولت إلى أدوات بيد الرأسمالية العالمية والبعيدة عن تمثيل الشعوب والمكونات.

من الجدير بالذكر أن استراتيجية أوجلان الجديدة لحركة حرية كردستان، منذ التسعينيات، جاءت من هذا الفهم العميق، وقد أنقذت الحزب والنضال الكردي الديمقراطي من التراجع. بل إن التجديد الذي قام به القائد أوجلان من داخل سجن إمرالي، وخاصة عبر مجلداته الخمسة المسماة "مانيفستو الحضارة الديمقراطية"، كان له الأثر الأعمق في تحويل الكرد إلى فاعل أساسي في الشرق الأوسط، وقدم نموذجًا للعمل السياسي والاجتماعي وبناء الإنسان والمرأة والمجتمع الديمقراطي الحر.

من المهم الإشارة إلى أن هذه ليست المحاولة الأولى للقائد أوجلان لإحداث انطلاقة جديدة، بل لطالما سعى لتوسيع النضال ليتجاوز الأطر النخبوية الضيقة، بحيث يكون المجتمع، بكل فئاته وقطاعاته، فاعلًا في العمل والبناء من أجل تحقيق الحرية والديمقراطية.

ولفهم بوصلة التوجّه والذهنية الجديدة، يمكن الرجوع إلى القسم الأخير من مؤتمر الحزب، حيث ورد في قَسَم الأعضاء:

"سأعيش كاشتراكي في المجتمع الديمقراطي على الخط الآبوجي، وسأناضل ضد حضارة السلطة الذكورية ونظام الدولة، وأتخذ النظام المجتمعي الديمقراطي، القائم على حرية المرأة، كأساس. سأصعّد نضالي من أجل حرية الشعب الكردي في ظل جميع الظروف، وسأقود مرحلة بناء المجتمع الديمقراطي، وأحافظ على الاشتراكية الديمقراطية والحياة الحرة، وأجسّد كافة القيم التي بناها حزب العمال الكردستاني، وسأناضل من أجل شرق أوسط ديمقراطي وعالم ديمقراطي. وعلى هذا الأساس، أتعهد للقائد آبو، لشهداء كردستان، لشعبنا، وللإنسانية، بشرفي وكرامتي."

وهنا، تتضح المعايير الأساسية الإنسانية والأخلاقية لمواصلة المسيرة، التي لن تتوقف عند إنهاء هيكلية حزب العمال الكردستاني أو الكفاح المسلح، بل ستزداد زخمًا وتلاحمًا جماهيريًا، لأنها تقدم رؤية مجتمعية جديدة تسعى لبناء حياة حرة، بعيدًا عن السلطوية الدولتية والذكورية.

نعتقد، وكما أكد الطرف الكردي المعني بنداء أوجلان، أن هذه المسيرة ستنمو مع مرور الزمن. ولكن، للوصول إلى السلام المنشود في تركيا وشمال كردستان، لا بد من تحقيق شرطين أساسيين:

1-تحقيق حرية القائد أوجلان لقيادة العملية فعليًا، كونه صاحب النداء والمبادرة والقدرة على التأثير.

2-تهيئة بنية قانونية وسياسية من قبل الدولة التركية، لتفادي تكرار مشاهد الفشل في محاولات السلام ووقف إطلاق النار التسعة السابقة.

مع التأكيد على أن التغيير الفكري والفلسفي والسياسي هو عمل ذاتي إرادي بنيوي، لا يتوقف على الطرف الآخر. بل إن تنفيذ الخطوات الذاتية سيفرض على الطرف المقابل تقديم خطوات مقابلة. ورغم أن البعد الأمني والعسكري يتوقف بدرجة كبيرة على الطرف الآخر، فإن وضع القرارات موضع التنفيذ سيبقى مرهونًا بمواقفه العملية.

ووفق هذا الاجتهاد الفكري والسياسي الأوجلاني، وفي حال الذهاب إلى حل القضية الكردية بشكل سلمي وديمقراطي، سيكون المستفيد من هذا التحول والتغيير شعوب ودول المنطقة قاطبةّ. لأن وجود مشروع من صلب المنطقة نفسها، وفق قيمها وتقاليدها الديمقراطية، سيعيد إحياء روح التعاون والأخوة بين شعوب المنطقة. وبهذا سيتم تقليل تداعيات ورواسب الاستشراقية ونظرياتها التفسيرية الإلغائية، التي جلبت القومية السلطوية والتيار الديني المتشدد البعيد عن قيم التسامح والأخلاق السامية. كما أن حل القضية الكردية في تركيا، ومعها في الدول الأربعة، سيؤدي إلى عهد ديمقراطي جديد وبيئة مناسبة للتنمية والاستقرار والأمان.

وفي الختام، نؤكد أننا، وفقًا لرؤيتنا وتحليلنا للاستراتيجية الجديدة الأوجلانية – السياسية والمجتمعية والثقافية – والمتمثلة في إنشاء المجتمع الديمقراطي، واشتراكية المجتمع الديمقراطي، أمام فلسفة سياسية جديدة، ورؤية متكاملة للعمل المجتمعي، تتجاوز الحزبية والمؤسسات الفوقية، نحو حالة كومونية تشاركية، وديمقراطية مباشرة، تهدف إلى بناء الإنسان والمجتمع الحر والديمقراطي. وهذه، في رأينا، أهم تطور فكري وفلسفي وسياسي في الشرق الأوسط والمنطقة يربط بين الماضي والحاضر لبناء المستقبل.

قد يهمك