عادت قاعدة “باجرام” الجوية لتتصدر واجهة الأحداث من جديد، بعدما صرّح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإمكانية استعادة القاعدة وإعادة تشغيلها كمنصة عسكرية في أفغانستان.
غير أن حركة طالبان رفضت هذا الطرح رفضًا قاطعًا، مؤكدة أن أي محاولة لإعادة الوجود العسكري الأمريكي ستُواجَه بتصعيد شديد.
ويفتح ذلك الباب مجددًا أمام نقاش معقّد حول دلالات هذه القاعدة الاستراتيجية، وأبعاد الصراع المرتبط بها بين القوى الكبرى، والمستقبل الأمني لأفغانستان.
الأهمية الجغرافية والعسكرية
تقع قاعدة باجرام في ولاية بروان، على بعد نحو 50 كيلومترًا من العاصمة كابول، ما جعلها نقطة تمركز حيوية لقربها من المراكز السياسية والإدارية الأفغانية.
وبُنيت القاعدة في خمسينيات القرن العشرين بالتعاون مع الاتحاد السوفييتي، وتم تطوير مدرجها في السبعينيات ليصبح قادرًا على استقبال الطائرات الثقيلة.
الأهمية الحقيقية للقاعدة تجسدت في كونها نقطة ارتكاز عسكرية قادرة على ربط عمليات واشنطن في أفغانستان بالخليج وآسيا الوسطى. لذلك، كانت دائمًا بمثابة “الجسر الجوي” للقوات الأمريكية وحلفائها، حيث انطلقت منها الطائرات القاذفة والمسيّرة وعمليات النقل والإمداد.
من السوفييت إلى الأمريكيين
تاريخ القاعدة يعكس التحولات الكبرى في أفغانستان. خلال الاحتلال السوفييتي (1979-1989)، لعبت باجرام دور القلب النابض للعمليات العسكرية، حيث استُخدمت لدعم القوات البرية ضد المقاتلين المدعومين من الولايات المتحدة. لكن مع انسحاب السوفييت، تدهورت بنيتها التحتية بفعل الحرب الأهلية.
وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وسقوط حكم طالبان، سيطرت القوات الأمريكية على القاعدة في ديسمبر من العام ذاته. أعادت واشنطن بناءها وتوسعتها لتصبح واحدة من أكبر القواعد الأمريكية خارج أراضيها، إذ امتدت مساحتها إلى 77 كيلومترًا مربعًا، واستوعبت ما يصل إلى 10 آلاف جندي. كما زُوّدت بمدرج جديد طوله 3660 مترًا، ومرافق متكاملة من مستشفى عسكري حديث إلى صالات ترفيه ومبانٍ سكنية مجهزة، بما يجعلها مدينة عسكرية متكاملة.
الجانب الأمني والجدل الحقوقي
لم تكن باجرام مجرد قاعدة عسكرية، بل ارتبط اسمها بممارسات مثيرة للجدل. ففي عام 2002، أنشأت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية مركز احتجاز داخل القاعدة، ضم أكثر من 120 زنزانة.
وقد أُطلق عليه لاحقًا “جوانتانامو أفغانستان”، بسبب الانتهاكات الجسيمة وعمليات التعذيب التي جرت داخله بحق المعتقلين، وهو ما شكّل مصدر انتقادات واسعة للولايات المتحدة وأدى إلى توتر صورتها على المستوى الدولي.
لماذا تعود باغرام إلى الواجهة الآن؟
تصريحات الرئيس ترامب عن إمكانية استعادة القاعدة تعكس اتجاهًا جديدًا في السياسة الأمريكية يقوم على إعادة التموضع العسكري في مناطق استراتيجية لمواجهة التحديات الأمنية والإقليمية، خاصة مع تصاعد النفوذ الصيني والروسي في آسيا الوسطى. فوجود قاعدة مثل باجرام قد يمنح واشنطن أداة ضغط جيوسياسية مهمة، ليس فقط على طالبان، بل أيضًا على القوى الإقليمية المنافسة.
لكن التحدي الأكبر أمام هذا التوجه يتمثل في رفض طالبان القاطع. الحركة، التي بنت شرعيتها الداخلية على فكرة مقاومة الاحتلال الأجنبي، ترى أن عودة القوات الأمريكية تعني خيانة لاتفاق الدوحة لعام 2020، وتهديدًا مباشرًا لسيادتها.
ومن ثمّ، فإن أي محاولة لإعادة استخدام باجرام ستقابل بمقاومة مسلحة قد تعيد أفغانستان إلى دائرة الحرب الطويلة.
دلالات أوسع
النقاش حول باجرام ليس مجرد ملف محلي أفغاني، بل يعكس طبيعة الصراع الدولي الراهن. فالولايات المتحدة تحاول عبر هذه الورقة تأكيد أنها قادرة على العودة إلى قلب آسيا عند الضرورة، بينما تراهن طالبان على دعم قوى مثل الصين وروسيا وإيران لتثبيت موقفها.
وبين هذه الحسابات، يبقى الشعب الأفغاني الأكثر تأثرًا، إذ يخشى كثيرون أن يؤدي أي صدام جديد إلى انهيار الأمن الهش، وإعادة البلاد إلى سنوات الفوضى والعنف.
خلاصة
قاعدة باجرام ليست مجرد منشأة عسكرية مهجورة، بل رمز لصراع طويل بين القوى الكبرى على أرض أفغانستان. عودتها المحتملة تطرح أسئلة حول مستقبل التوازن الإقليمي، ومصير اتفاقيات السلام، وحدود النفوذ الأمريكي في عالم متعدد الأقطاب.
غير أن المؤكد أن طالبان لن تسمح بعودتها دون مقاومة، ما يجعل الملف برمته مفتوحًا على احتمالات صدام جديدة قد تتجاوز حدود أفغانستان نفسها.
فضاءات الفكر
القصة كاملة