في ظلِّ واقعٍ سياسي متأزم، يسعى رئيس الحكومة الانتقالية في سوريا إلى ترسيخ شرعيته قبيل توجهه إلى الولايات المتحدة، عبر تنظيم انتخابات برلمانية تهدف إلى إظهار أن البلاد تُدار وفق آليات مؤسسية طبيعية. غير أن هذا المسعى، في جوهره، يثير تساؤلات جوهرية حول طبيعة هذه الانتخابات، ومدى توافقها مع المعايير الديمقراطية المعترف بها دوليًا، خاصةً في ظل غياب الضمانات الأساسية التي تكفل نزاهة العملية الانتخابية وشفافيتها.
تعيينات تحت غطاء انتخابي
وفقًا للنظام الانتخابي المعتمد، يُعيّن رئيس المرحلة الانتقالية ثلث أعضاء مجلس الشعب بشكلٍ مباشر، أي ما يعادل 70 نائبًا من أصل 210، بينما يُعيّن البقية من قبل لجنة شكلها هو نفسه. هذا الترتيب لا يعكس أي شكل من أشكال التمثيل الشعبي، بل يتعارض بشكلٍ صارخ مع المبادئ الأساسية للديمقراطية، التي تقوم على الفصل بين السلطات، والتعددية السياسية، والانتخابات التنافسية الحرة.
إن ما يُسمّى بالعملية الانتخابية الجارية لا يمكن وصفه إلا بأنه “تعيين بأشكاله المختلفة”، حيث تغيب عنها كل مقومات الانتخابات الحقيقية، وتُدار وفق آليات تفتقر إلى أدنى درجات الشفافية والمساءلة. فالشعب السوري، الذي يُفترض أن يكون مصدر الشرعية، مستبعد فعليًا من هذه العملية، سواء عبر تقييد الحريات السياسية أو من خلال هندسة النظام الانتخابي بما يضمن احتكار السلطة التنفيذية للمشهد السياسي.
السلطة التشريعية أداة للسلطة التنفيذية
تبرز هيمنة السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية كأحد أبرز مظاهر الانحراف عن النموذج الديمقراطي، فبدلًا من أن يكون البرلمان مؤسسة مستقلة تعبّر عن إرادة المواطنين وتراقب أداء الحكومة، يتحول إلى واجهة شكلية تُستخدم لتكريس السلطة القائمة، عبر تعيينات مباشرة وغير مباشرة، وتوجيه العملية السياسية بما يخدم مصالح النظام لا مصالح الشعب.
هذا الواقع لا يعكس فقط خللًا في الإجراءات، بل يكشف عن أزمة بنيوية عميقة في النظام السياسي السوري، الذي يقوم على بنية مغلقة لا تسمح بالتعددية الحزبية، ولا تتيح المجال للمنافسة السياسية الحقيقية. فغياب الأحزاب المستقلة، وتقييد الإعلام، وانعدام الحملات الانتخابية الحرة، كلها مؤشرات على أن ما يجري ليس سوى إعادة إنتاج للسلطة في ثوب انتخابي زائف.
غياب الإرادة الشعبية لا يعني فقط أن الانتخابات لا تعبّر عن خيارات المواطنين، بل يشير إلى أزمة شرعية حقيقية، حيث تُمارس السلطة دون تفويض شعبي، وتُصاغ السياسات بعيدًا عن الرقابة والمساءلة، وفي ظل هذه الظروف، تصبح الانتخابات مجرد أداة دعائية تهدف إلى إضفاء شرعية شكلية على نظام لا يستند إلى قواعد الديمقراطية، ولا يحترم حقوق المواطنين في المشاركة السياسية.
لا يمكن اعتبار هذه الانتخابات شرعية في ظل غياب العناصر الأساسية التالية:
أولاً؛ لا توجد بيئة حزبية حقيقية تسمح بالتنافس أو التعبير عن توجهات مختلفة.
ثانياً؛ لا يوجد أي استقلالية برلمانية حيث يُشكّل عبر تعيينات مباشرة وغير مباشرة، مما يفقده دوره الرقابي والتشريعي.
ثالثاً؛ لا يضمن تكافؤ الفرص أو تمثيلًا عادلًا لمختلف الفئات والمناطق.
رابعاً والأهم؛ استثناء مناطق كاملة مثل إقليم شمال وشرق سوريا والسويداء، ما يطعن في شمولية العملية ووطنيتها.
كل هذه العناصر تُعد من الركائز الأساسية لأي عملية انتخابية ديمقراطية، وغيابها يعني أن ما يجري لا يمكن وصفه إلا بأنه محاولة لإضفاء شرعية شكلية على سلطة قائمة.
شرعية شكلية وتمثيل زائف
الانتخابات، كما يخطط لها أن تُجرى اليوم في سوريا، لا تعكس إرادة الشعب، بل تُستخدم كأداة سياسية لتجميل صورة النظام أمام المجتمع الدولي. تعيين ثلث البرلمان من قبل الرئيس، وتشكيل اللجان الانتخابية عبر آليات غير شفافة، يفرغ العملية من مضمونها الديمقراطي، ويحوّلها إلى مسرحية سياسية تهدف إلى كسب الاعتراف الخارجي، لا إلى تمكين المواطنين من المشاركة في الحكم.
لا توجد دولة حديثة يُعيّن فيها الرئيس ثلث البرلمان. هذا النموذج يتعارض مع المعايير الدولية التي تنص على: انتخابات دورية حرة ونزيهة؛ إشراف قضائي مستقل؛ مشاركة شعبية واسعة؛ شفافية في التمويل والحملات.
غياب هذه المعايير في الحالة السورية يجعل من الانتخابات أداة للشرعنة لا للمساءلة، ويؤكد أن السلطة لا تزال تحتكر القرار السياسي بعيدًا عن أي رقابة شعبية أو مؤسسية.
في المحصلة، فإن الانتخابات التي يسعى أحمد الشرع إلى تنظيمها لا تمثل خطوةً نحو الديمقراطية، بل محاولة لإعادة إنتاج السلطة في ثوب جديد. الشرعية لا تُكتسب عبر التعيينات، بل تُبنى على الثقة الشعبية، والمؤسسات المستقلة، والتمثيل الحقيقي، وما لم تتوافر هذه الشروط، فإن أي انتخابات تبقى بلا مشروعية، ولا تعكس إرادة الشعب السوري، بل تكرّس واقعًا سياسيًا مغلقًا لا يتيح المجال للتغيير أو المشاركة الفعلية.
...... نقلاً عن صحيفة روناهي