تحظى سوريا اليوم باهتمام دولي ومساعي منخرطة لإنهاء العقوبات المفروضة عليها، خاصًة مع انتقال ذلك من مجرد إشارات سياسية إلى خطوات عملية، مما يضع دمشق أمام اختبار صعب لمصداقية النموذج الجديد للنهوض في مرحلة ما بعد "الأسد"، أو الانجرار إلى مرحلة رمادية جديدة من المكاسب الجزئية التي تصاحبها شروط لاختبار الحكومة الانتقالية.
ولا تقع هذه التحولات في فراغ، بل أنها تشكل ترجمة للضغوط المتراكمة التي تضم رغبة خليجية في بدء صفحة اقتصادية جديدة، ومناشدة الأطراف الأوروبية بالتسوية الشاملة مع دمشق بعد التطورات الأخيرة، وبروز الدورالأمريكي الذي يفضل استخدامه لأدوات الضغط والانخراط الاقتصادي على استدامة الحصار.
ويضع ذلك سوريا على خارطة اهتمامات التمويل الدولي مع اختبارات لتوازنات الطاقة والنفوذ الإقليمي. إلا أن المعضلة الرئيسة تكمن حقيقًة في أن أكبر خطوات رفع العقوبات، ولاسيما النظر في استخدام "سويفت"، تبقى معقدة للغاية في ظل الإشكالات البنيوية والهيكلية داخل البلاد، والتي تشمل استمرار هشاشة الاقتصاد السوري، ومؤسسات الدولة المتلاشية، والفساد الممتد في ضوء هيمنة بيئة أمنية غير مستقرة.
وبناءً على ما سبق، يهدف هذا التحليل إلى تقييم قرار رفع العقوبات وقدرة الدولة السورية على استيفاء الشروط، وتحليل نتائج هذا القرار وآثاره على إحداث تحول حقيقي، للتحقق من مدى الجدية في استغلال هذه المرحلة كلحظة تاريخية فارقة أو أنها ستظل مجرد جولة أولى في اختبار مستدام.
التحرير الجزئي:
يشكل رفع العقوبات عن دمشق، ولاسيما قرار استعادة بعض البنوك الحكومية في سوريا قدرة التعامل عبر نظام "سويفت" البنكي الدولي أول اختبار جدي لتثبيت التحول، خاصًة مع تزايد مؤشرات فتح بعض الحسابات في البنوك العربية، ما أدى لإطلاق تدفقات محدودة من التحويلات والخدمات المصرفية. وقد قدمت دول الخليج العربي ودائع زراعية وغذائية مكثفة، مقابل شروط شفافية أولية وتقارير متابعة. بينما ظلت العقبة الرئيسة مرهونة بقبول البنوك المركزية الأوروبية لإرسال ودائع وكفالات.
وقد أصبح صرف هذه الحسابات محل نقاش على طاولة مؤسسات مالية كبرى، لكن مازال الأمر مرتبطًا بمطابقة إنجازاته لخطوات ملموسة، وليس مجرد خطوات إعلامية أو محاولات رمزية، قبل أن يتحول إلى اندماج كامل في النظام المالي العالمي.
في ذات الوقت، لا بد أن لا يغفل من يحاول دراسة الوضع السوري عن مدى ارتباط رفع العقوبات بخارطة التوازن الإقليمي، فإن سوريا تشهد تداخلًا تركي-خليجي-أمريكي، في سياق تطورات الملف السوري. فمن جهتها تستثمر تركيا عودة الاندماج الاقتصادي كوسيلة للحفاظ على وجود دائم ونفوذ محوري في سوريا، وقد أقامت 7 قواعد عسكرية في شمال سوريا بهدف تأمين موقفها كشريك لا يمكن تجاوزه، والإبقاء على دورها كطرف إقليمي يهيمن على أي تطور في الملف السوري.
أما القوى الخليجية وعلى رأسها السعودية والإمارات، ترى في أبواب الاستثمارات اختبارًا لتحقيق إعادة الإعمار والحفاظ على دور أساسي في هذه العملية. وفي ظل محاولة الأطراف الغربية والخليجية الحفاظ على الوضع الحالي بعد تقليص الوجود الإيراني بشبكة الميليشيات التي كانت تعمل ضد المصالح الغربية والخليجية. لذلك، فإن الوضع الحالي يشكل خارطة تسويات مشروطة تتضمن تقليص العقوبات وبناء المؤسسات ويقف على أنفها مصير سوريا ما بعد رفع العقوبات.
وإجمالًا، تدخل سوريا بشكل تدريجي للسوق الدولية، لكن دون الانفكاك الكامل من إطار الضغط الغربي المستمر. فقد بدأ الاتحاد الأوروبي خلال الأشهر الماضية بتعليق أو رفع العقوبات على قطاعات رئيسة مثل الطاقة، النقل، والخدمات المالية، وإلغاء تجميد أصول بنكية بهدف دعم إعادة الإعمار. وأخيرًا قرار سويسرا إلغاء العقوبات على البنك المركزي المتعلق بسنوات الأرباح والسندات، بينما تدرس واشنطن منح تراخيص جزئية تتيح تحويلات طاقوية، بعد إعلانها عن رفع مؤقت لقانون قيصر.
تحديات النهوض:
لا يمكن اعتبار الرفع الجزئي أنه تحول جذري، لكنه يمثل تمهيد استراتيجي، فهو يمنح لسوريا بصيص من الأمل اقتصاديًا، لكنه يظل تحت سقف مراقبة دولية مشددة، أمنية وقانونية. والمرحلة الحالية تتطلب خطوات موازية تشمل تعزيز الشفافية واستقلال قوانين العمل والمؤسسات القضائية، مع ضمان التوازن الأمني والداخلي. فإما أن يتم استثمار هذه النافذة المؤقتة في بناء مؤسسة دولة ديمقراطية ومستقرة، أو تحول هذه الفرصة إلى فخ مالي وأمني يعيد البلاد للمربع صفر.
ورفع العقوبات لم يأتي بمبادرة عرضية، لكنه مشروطًا أيضًا بمتطلبات أمنية، والتي لم يتم تنفيذها بعد، وخاصًة بعد وقوع الهجوم الإرهابي بكنيسة "مار إلياس" بالعاصمة دمشق في هذا التوقيت، ما قد يغلق النافذة المالية مع استمرار الهجمات الإرهابية. ويسلط هذا الضوء على أن مسار الرفع يتطلب مصداقية الحكومة السورية الجديدة في الالتزام بالشروط مقابل الحصول على مرونة دولية. فقد وضعت القوى الغربية أمن الأقليات كأحد أهم شروطها للرفع الجزئي للعقوبات، لكن وقوع هذا الحادث داخل الكنسية قد يشكل عائقًا لذلك. لذلك، فإن التحديات البنيوية أمام الاقتصاد السوري لا تزال كبيرة ومعقدة، لكن يمكن تنظيمها في 5 تحديات رئيسة تمثل أهمها على النحو التالي:
(1) غياب الشفافية والمؤسسات الراعية: مازال الاقتصاد السوري يدار بسياسات اجتيازية دون مزايدات علنية أو قانون مرن للحماية الاستثمارية، ويضع ذلك المستثمرين الخليجيين أو الأوروبيين أمام خيارات ضيقة وحذرة، وإن تدخلت الأموال المبدئية سيبقى غياب الضمانات عامل إحباط حقيقي للإقبال على الاستثمار في سوريا.
(2) تآكل البنية الإنتاجية: لم تتمكن الزراعة السورية أو قطاع الصناعة من التعافي بعد الصراع الممتد لسنوات، فقد انخفضت طاقة المصانع بنسبة 60، كما شهدت المزارع هجرة واستنزاف حاد للبنى التحتية، مما يفرض على الاستثمار إعادة تقييم هيكل الإنتاج وبناءه من الصفر أو على أقل تقدير وضعه ما قبل 2011.
(3) الحاجة لسياق سياسي مرن: لا يمكن فصل التعافي الاقتصادي عن سباق الزمن السياسي الذي تمر به سوريا، كما أن النجاح في ذلك يرتبط ارتباطًا قويًا بمدى سرعة الدول الداعمة في ضخ التمويل قبل أن تنفجر مشاكل داخلية جديدة في البلاد. وإذا استمر التراجع ولم تتجاوز البلاد التضخم الحالي ستتلاشى أي فرصة لإنقاذ الاقتصاد السوري.
(4) التدهور الأمني: تشكل واقعة تفجير كنيسة "مار إلياس" في دمشق مساء شاهد حي على أن رفع العقوبات الجزئي لا يعكس تلقائيًا استعادة للأمان المطلوب. فلا تزال سوريا تعاني من خروقات أمنية خطيرة، كما أن التكوين العسكري للجيش السوري يظهر دولة مهزوزة مؤسساتيًا، تعيش صراعات ولاءات وتكوين هجين متعدد الجنسيات، فالمقالتلين الأجانب قد يفتقرون للطابع الوطني وتظل ولاءاتهم مشروطة.
(5) الإصلاح المؤسساتي: تُعد القوانين الجمركية العقارية والعمالية عامل أساسي في لتحفيز النمو الاقتصادي والاستثمار، وتهدد العشوائية استدامة المشاريع المحتملة بمرحلة ما بعد رفع العقوبات، بما يحول الاقتصاد المحلي إلى شبكة علاقات فردية غير قابلة للإدارة وينذر بإعادة إقفال النافذة مجددًا، وإبقاء سوريا في وضع هش.
متطلبات أمنية:
ما تمر به سوريا من اختبار بمرحلة ما بعد رفع العقوبات ليس امتحانًا اقتصاديًا فقط، بل أنه يشكل مزيجًا مركبًا من التحديات الأمنية والهيكلية التي تم ذكرها سالفًا. وبالتالي فإن الإرث المتمثل بالفساد الممتد بعمق في المؤسسات السورية، إلى جانب اختلال التوازن السكاني – مع النزوح المتكرر وتجميع السكان في دمشق – قد يؤدي إلى إطلاق حساسيات مذهبية وطائفية جديدة. وتبرز الأحداث الأمنية المتكررة هشاشة القدرات الأمنية وطبيعة التهديدات التي لا تزال قادرة أيضًا على اختراق قلب العاصمة السورية، ولاسيما حادث الكنيسة.
كما أن العمليات العسكرية الإسرائيلية في الجنوب السوري خلال إبريل ومايو المنقضيين، بشن تل أبيب أكثر من 200 غارة جوية وهجمات صاروخية وجوية على مواقع في درعا، القنيطرة، الكسب، وريف دمشق، ترافق أيضًا التهديدات الداخلية، ومتحدة مع التهديدات التركية التي تطال شمال وشرق سوريا بصورة خاصة، في تعدي خطير ومستمر على السيادة السورية وبقبول من الحكومة الحالية المدعومة تركيًا لمصالح خاصة.
كل هذه التحديات تؤكد أن المشهد الأمني مازال هشًا للغاية، ما يحد من قدرة دمشق على استعادة سيادتها الكاملة. وإذا أرادت سوريا تحقيق تحول حقيقي بعد رفع العقوبات الجزئي، سيتطلب الأمر استراتيجية أمنية وسياسية تعزز السيطرة الداخلية، وتمنع الاستهداف الخارجي وتمدد القوى الإقليمية داخل الأراضي السورية، لتأسيس بيئة تمكنها من التعافي والاستقرار وتوفر فرصة لاستقلالية القرار السيادي والأمني.
بناءً على ما سبق، فإن الفرصة متوفرة للدولة السورية على الانعطاف نحو مسار التعافي، لكن لا يكفي أن تستعيد البلاد بصورة خجلة حقوقها في الأموال والخدمات المصرفية، بل عليها أن تفتح النافذة الأكبر في بناء الدولة الديمقراطية الشاملة، والتي تقبل بجميع أبنائها ومكوناتها وأطيافها. ولن يتحقق ذلك دن حكومة تمثيلية لكافة الأطياف بصورة حقيقية ومؤسسات قضائية مستقلة، وأن يضمن الدستور المساواة وحقوق الأقليات، وإشراكهم ضمن بنية الحكم كمدخل وحيد لحماية الاستقرار ومنع الانزلاق لمرحلة جديدة يستمر بها الانقسام.
وختامًا، يمكن القول أن الديمقراطية باتت حجر الأساس الذي يحول فرصة رفع العقوبات من فرصة عبور مالي بحت لانفراجة وطنية تأسيسية شاملة، بما يوفر فرصة تاريخية لاختبار القدرة على الانتقال من النموذج العزلي إلى نموذج الدولة المتعافية. بما يتطلب توفير مؤسسات إصلاحية شفافة، وأمن مستدام، واستراتيجية إقليمية قائمة على التوازنات والاستقلالية في القرار السيادي السوري عن أي ضغوط. ولذلك، يبقى الاختبار الحقيقي الآن للحكومة الانتقالية في مواجهتها للمسؤولية، فإما أن تتجاوز الاختبار وتتحول، أو تبقى في المنطقة الرمادية على شروط الأطراف الأخرى، وتعيد إنتاج دائرة المركزية ذاتها والنظام الهش بصورته المعتادة.
من زوايا العالم
من زوايا العالم