بث تجريبي

حرب إيران وإسرائيل 2025: تغيُّر المعادلات الإقليمية

يعاني الشرق الأوسط من حروب هيمنة عبثية لن تأتي بالحلول السليمة لقضايا شعوب المنطقة، والدول القومية الأحادية بلبوسها الديني والقومي، ليس أمامها إلا عملية التحول الديمقراطي.

منذ القرن الثاني عشر، ومع سدّ الطرق أمام الاجتهادات الفكرية والفلسفية وفقه الواقع والحقيقة، أصبحت منطقة الشرق الأوسط، بأممها المختلفة وشعوبها ودولها، تابعة، خاصةً مع انتقال الثقل الحضاري والهيمنة من المنطقة إلى أوروبا، نتيجة لزيادة نسبة الوعي بالحقيقة لديهم، وانخفاضها بالمقابل في الشرق الأوسط.
ولعلّ ما زاد من التشرد والضياع لشعوب منطقتنا هو السلطوية المركزية الدينية لدى كلٍّ من العثمانيين والصفويين، والتي مهّدت الأرضية للجهل والفقر والاستبداد، إلى أن وصلنا إلى مرحلة قدوم الغرب، ممثّلًا بالبريطانيين والفرنسيين، وبالتوافق مع روسيا حينها، لتقسيم أرضنا وشعوبنا، وفرض قيم دولتية ومجتمعية ذات لونٍ واحد، بعيدة عن ثقافة التشارك والتكامل والأخوّة، وعن التقاليد الديمقراطية التي عُرفت بها شعوب المنطقة.

عندما كان البريطانيون يعملون ويمهّدون لبناء إسرائيل، كان وجود تركيا وإيران، بطابعهما المعين، ضروريًا لاستكمال حلقة وجود إسرائيل كدولة وسلطة تستمد شرعيتها وطبيعتها من جوارها الدولتي الذي يشابهها. بمعنى، تم إنشاء تركيا عام 1923 كدولة قومية تركية، وإيران بطابعها أيام الشاه، لتكون هاتان الدولتان، وغيرهما، تمهيدًا وشرعنةً لنموذج دولة إسرائيل.

ونعتقد أنه، منذ عام 1979 وقيام الإسلام السياسي الشيعي بتسلّم مقاليد الحكم في إيران، بمساعدة النظام المهيمن العالمي، وخاصةً فرنسا وأمريكا، كان لا بدّ من تحضير الطرف الآخر وإيصاله إلى الحكم أيضًا، وهو الإسلام السياسي السني، بوجود دولة ثالثة تكمل هذا المثلث، وهي الدولة اليهودية. وعليه، فإننا نعتقد أن هذه الأطراف الثلاثة (تركيا، إيران، إسرائيل) تُكمل بعضها في المشروع العالمي للشرق الأوسط حتى يوم 13 يونيو.

ما حصل من حروب إبادة وقتل بحق الشعبين العربي والكردي، وشعوب المنطقة عمومًا، هو جزء من بلورة هيمنة إقليمية تكاملية بين هذه الأطراف الثلاثة، لصالح مشروع القوى المركزية العالمية.
منذ 13 يونيو/حزيران 2025، نعتقد أننا دخلنا، وبشكل فعلي، في حالة تحدٍ حقيقي للمعادلات الإقليمية السابقة، بحيث إننا ربما نكون على أعتاب "الانفجار الكبير" المنتظر في البُنى السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية، لتتوافق مع المشهد الإقليمي الجديد المراد. إذ أصبحنا نعتقد أن قواعد الاشتباك والتفاعل قد تم تجاوزها من قِبل الأطراف الإسلاموية، أو ما يُعرف بالإسلام السياسي بشقَّيه.

نرى أننا، ومنذ انهيار النظام العراقي السابق، أمام مرحلة انتقالية باتجاه شرق أوسط جديد. وما جرى من حروب وتحركات شعبية حاول النظام الإقليمي والعالمي استغلالها والتدخل فيها والتحكم بنتائجها، كان في إطار التمهيد للوصول إلى يوم 13 يونيو، والقرار ببدء هذه الحرب، التي نعتقد أنها فصل من فصول الحرب العالمية الثالثة. ومن حق الجميع أن يسأل: لماذا بدأت هذه الحرب بين إسرائيل وإيران؟ ولكن الأهم هو قراءتها ضمن السياق العالمي والإقليمي، وأيضًا فهم تداعياتها وحجم هذه التداعيات على شعوب ودول المنطقة والعالم، وعلينا أن نسأل: هل في هذه الحروب أي منفعة أو فائدة لشعبي الدولتين أولًا، ولشعوب المنطقة ثانيًا؟

بالطبع، هذه الحروب هي حروب هيمنة وتسلّط وصراع مشاريع توسعية، تسعى للسيطرة على موارد المنطقة ومستقبل شعوبها. ليست هناك جهة مدافعة وأخرى مهاجمة، بل الطرفان ينطلقان من معادلة نفي الآخر، وتصفيته، وإنهاء وجوده.

نقول إن الدولة الإسلاموية الإيرانية تمثل نموذج الدولة القومية، ولكن بلبوس ديني، وهو نموذج أوجده النظام العالمي، وبشكل خاص الرغبات البريطانية، التي كانت تسعى إلى كسر شوكة الإمبراطوريات والدول الكبيرة في أوروبا. كما أن اليهود الذين كانوا يريدون نموذجًا دولتيًا يمنحهم الشرعية والمقدرة على بناء دولتهم، وجدوا في مفهوم الدولة القومية – بصيغتها الدينية أو العرقية – الوسيلة لتحقيق ذلك، وإسرائيل الحالية أيضًا هي نموذج للدولة القومية بلبوسها الديني اليهودي. ولذلك، فإن إيران الإسلاموية، وإسرائيل الدينية، وتركيا الإسلاموية، ليس أمامها إمكانية للاستمرار والبقاء إلا من خلال أحد خيارين:

1-  الاستمرار في الحروب، وقتل شعوب المنطقة، ومحاربة دولها، وارتكاب المجازر والإبادات، وزيادة التسليح، وإنشاء مصانع الصواريخ والطائرات المسيّرة والطائرات الحربية.

2- تحقيق التحول الديمقراطي، والانتقال من نموذج الدولة القومية الأحادية إلى دولة تقوم على عقد اجتماعي أو دستور ديمقراطي، يستوعب كل المكونات، ويضمن حقوق وخصوصيات جميع الشعوب والمجتمعات، من خلال بناء مجتمعي ديمقراطي يشعر فيه الإنسان بحريته وكرامته. دولة تتجاوز اللون الواحد، وتضمن حقوق جميع الألوان، وتكون ملكًا لجميع أبنائها، ويكون القانون والسياسة والحوار أدوات النقاش والحل فيها.

وعليه، فإما أن تُحقّق إحدى الأطراف تفوقًا عسكريًا يؤدي إلى إنهاء الطرف الآخر أو إضعافه وإجباره على الاستسلام، وهو ما تشير إليه المعادلات العسكرية والمعطيات الحالية والتحالفات الدولية بشكل واضح لا لبس فيه، أو أن نشهد هدنة مؤقتة ووقفًا لإطلاق النار، سرعان ما ينهار مع شعور أحد الأطراف بتعزيز قوته، أو بشعوره بأن الطرف الآخر يتآمر عليه وينوي الانقضاض مجددًا. أو قد نحاول العودة إلى المعادلات السابقة وتكرار ما كان، لكن هذا الخيار يبدو مستبعدًا.

وهكذا، يبقى التصعيد واردًا بدرجة كبيرة، كما أن احتمال استسلام أحد الأطراف قائم.
ومهما كانت نتيجة هذه الحرب، فإننا نعتقد أن الزمن لا يعود إلى الوراء، وأن "الحجر قد تدحرج"، ولن يتوقف إلا في مكانه المناسب.

قد يحاول البعض إيقافه في موضعٍ يخدم مصالحهم الشخصية أو مصلحة دولهم، لكن الاستقرار الحقيقي والدائم لن يتحقق إلا من خلال تحقيق عدالة حقيقية بين شعوب المنطقة. هذه العدالة، في رأينا، لن تُبنى عبر "الاتفاقات الإبراهيمية" وهيمنة إسرائيل، ولا من خلال المشاريع التوسعية الصفوية أو العثمانية، بل يمكن أن تتحقق عبر مشروع الأمة الديمقراطية، وبناء مجتمع ديمقراطي، ووضع دساتير تحفظ حقوق جميع الشعوب، وتحترم هوياتهم وتنوعه، وبالتالي تجاوز الدول القومية الأحادية والنظم الديكتاتورية الاستبدادية والرجوع للشعب والمجتمع والمرأة وبناء حياة حرة ديمقراطية، وليس عبر تكرار نماذج الإبادة والقتل والصراع وتصفية الآخر المختلف، كما هو الحال في تلك الدول التي لا هدف لها سوى إخضاع الشعوب والدول الأخرى، والتحكم بمصيرها ومواردها، والاحتفال بقتل الآخر، سواء كان ذلك بالصواريخ أو الطائرات.

نقلا عن وكالة فرات للأنباء(ANF)

قد يهمك