تشهد الساحة السياسية الليبية تطورات متسارعة في العاصمة طرابلس، حيث تحولت الاشتباكات المسلحة إلى مظاهرات حاشدة تطالب بإسقاط حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة.
ويطرح هذا التصعيد تساؤلات جدية حول قدرة هذه المظاهرات على تحقيق أهدافها وإزاحة الدبيبة عن المشهد السياسي الليبي، وسط اتهامات له بان المتسبب في وصول طرابلس إلى الوضع الصعب الذي عليه الآن.
المظاهرات تشعل المشهد السياسي
ويتصدر الشعب الليبي المشهد الحالي، مع رفضه لأداء حكومة الدبيبة؛ حيث امتلأت الشوارع والمدن الكبرى في الغرب الليبي بجموع المحتجين المطالبين بإسقاط الحكومة، خاصة بعد اندلاع الاقتتال بين الميليشيات التي تسيطر على طرابلس، حيث تطال حكومة الدبيبة بإصدار أوامر بتصفية بعض الميليشيات على يد ميليشيات أخرى.
ورفع المتظاهرون شعار "لا للتمديد، نعم للانتخابات"، في دعوة صريحة للمجلس الرئاسي لتحمل مسؤوليته التاريخية وتولي السلطة التنفيذية كخطوة إنقاذية، مطالبين بمرحلة انتقالية مؤقتة تنتهي بحد أقصى في 25 يوليو 2026.
وقد حدد أبوبكر مروان، المتحدث باسم حراك سوق الجمعة (أحد الأجسام التي تقود المظاهرات)، أهدافها بإنهاء وجود التشكيلات المسلحة، وكافة الأجسام السياسية الحالية، ودعوة المجلس الرئاسي لاتخاذ قرار تاريخي يقود البلاد نحو الاستقرار، تمهيداً لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية ووضع دستور دائم.
ويتهم المتظاهرون الحكومة بـالفشل في إدارة المرحلة الانتقالية، واستمرار الفوضى الأمنية، وعرقلة المسار الانتخابي، بالإضافة إلى الفساد المستشري في أركانها.
وتظل العقبة الرئيسية تدخل المجمتع الدولي، حيث جاءت حكومة الدبيبة عبر اجتماعات جنيف بسويسرا، خلال الفترة من 1 إلى 5 فبراير 2021 وتمت عملية التصويت على مرحلتين، باشراف من القوى الدولية المنخرطة في ليبيا.
عز الدين عقيل السياسي الليبي
من جانبه، يرى عز الدين عقيل، رئيس حزب الائتلاف الجمهوري والمحلل السياسي الليبي، أن نجاح المظاهرات يتوقف على صمودها، مشيراً إلى أن الجولات الحالية قد لا تكفي للإطاحة بحكومة مفروضة أصلاً من المجتمع الدولي، ويضيف أن ليبيا تخضع لوصاية دولية، وأي تغيير يجب أن يتم وفق الآلية التي تلبي معايير هذه الوصاية، وفقاً له.
ويوضح عقيل، في تصريح لـ"المبادرة"، أنه قبل عام 2014، كان البرلمان ثم المؤتمر الوطني العام يحكمان ليبيا ويقومان بتعيين الحكومات. لكن بعد عام 2014 وانقسام ليبيا، تم تعطيل النظام الدستوري، وفرض ما يمكن تسميته "الوصاية الدولية" على ليبيا. ومنذ ذلك الحين، يرى عقيل أن المجتمع الدولي قد اغتصب حق تنصيب الحكومات، وذلك عبر تجميع مجموعة من الليبيين يعتقد أنهم يمثلون الشعب الليبي، في مؤتمرات مثل الصخيرات أو روما.
كما يشير إلى أن الدبيبة جاء بالرشوة، وقد حقق مجلس الأمن في قضية الرشوة، ورغم معرفة من تلقى الرشوة ومن دفعها، إلا أن مجلس الأمن أغلق القضية، مما يدل على تغلغل المجتمع الدولي في ليبيا، وفق الاتهامات التي وجهها له.
ويحذر عقيل من إصابة المظاهرات بـ"متلازمة التراجع اليومي" حتى يجد 10-15 فرداً أنفسهم وحيدين في الميدان، خاصة وأن تقنيات التفكيك تسير حالياً على قدم وساق، سواء بالرشاوى أو بالاستمالة أو بالتهديد أو استهداف الأشخاص المؤثرين، مؤكداً أنه إذا لم يكن الزخم قوياً، وإذا لم تكن لدى المتظاهرين رؤية وبرنامج واضح لتصحيح مسار ما حدث ومنع الاقتتال بين المدنيين، فإن مصيرها سيكون التراجع.
فساد وأمور أخرى
الإشكاليات التي تواجه حكومة الدبيبية ليس فقط بأزمة المليشيات، بل كانت اتهامات الفساد تطالها، في الوقت الذي كان يأمل الليبيون فيه تجاوز مرحلة ما بعد القذافي، التي يظل الانقسام فيها سيد الموقف.
عادل عبد الكافي، المستشار السابق للقائد الأعلى للجيش الليبي
هنا يقول عادل عبد الكافي، المستشار السابق للقائد الأعلى للجيش الليبي، إن المظاهرات الحالية قامت ضد فساد الحكومة، وأن بعض قادة التشكيلات الأمنية والعسكرية، التي فرضت نفسها على المنطقة الغربية وعلى طرابلس، كانت هي من تسيطر على القرار المالي والإداري، بالإضافة إلى إقامتها لسجون سرية.
وأوضح، في تصريح لـ"المبادرة"، أن الحكومة عليها ما عليها، مع السلبيات التي مارستها بتعيين شخصيات فاسدة، حيث ظهرت الحقائق للشارع الليبي بشأن حجم التجاوزات ونهب المال العام من قبل بعض الوزراء أو وكلاء الوزراء وأمراء التشكيلات العسكرية. كما أشار إلى تعاطيها مع المحكمة الجنائية الدولية للقبض على شخصيات مطلوبة لجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، وإقامتهم سجونًا خارج مؤسسات الدولة. الاستقالات الجماعية
وتشهد حكومة الوحدة الوطنية الليبية أزمة حادة مع تصاعد موجة من الاستقالات الوزارية بالتزامن مع الاحتجاجات؛ فقد أعلن رمضان بوجناح، النائب الثاني لرئيس الوزراء ووزير الصحة، استقالته رسميًا، مؤكدًا وقوفه إلى جانب مطالب الشعب الليبي المشروعة. كما شملت الاستقالات محمد الحويج، وزير الاقتصاد والتجارة، بعد ساعات قليلة من استقالة وزيري الحكم المحلي والإسكان.
ويرى عبد الكافي أن هذه الاستقالات خطوة إيجابية، لأن هؤلاء المسؤولين فاسدون بالأساس، وسبب الفساد هو ضعف إدارتهم وعدم إلمامهم بشؤون الدولة. ويشير إلى أنه كان من المفترض أن تتم الإطاحة بهم، لا أن يتاح لهم الوقت لتقديم استقالتهم، لأن الفشل هو عنوانهم الأول.
الحرب بين الميليشيات
ويعتبر السبب المباشر لاندلاع المظاهرات هو الاقتتال الأهلي الذي نشب عقب قرارات حكومة الوحدة الوطنية باغتيال أحد قادة الميليشيات، وهو عبدالغني الككلي، الشهير بـ"غنيوة"، رئيس جهاز دعم الاستقرار، على يد ميليشيا 444، حيث تؤكد مصادر عديدة لـ"المبادرة" أن تصفية الككلي جاء بقرار من حكومة الدبيبة نتيجة خلاف حول أمور مالية.
وقد تحول غنيوة من مجرم مدان إلى قائد ميليشيا، حيث تورط في أنشطة غير قانونية مثل تعاطي المخدرات والاتجار بها، مما أدى إلى سجنه 14 عاماً بتهمة القتل. وقد أُفرج عنه خلال أحداث 17 فبراير 2011 التي أطاحت بحكم القذافي، وتنقل بين التشكيلات المسلحة حتى يناير 2021، عندما أسند له المجلس الرئاسي رئاسة "جهاز دعم الاستقرار"، الذي سيطر على منطقتي أبو سليم والهضبة في طرابلس.
بالعودة إلى السياسي عزالدين عقيل يقول إنه كان أول شخص يعارض وجود هذه الميليشيات، لكن عبد الحميد الدبيبة، رئيس الحكومة الحالية في طرابلس، قام بالقضاء على ميليشيا عبر ميليشيا أخرى جهوية، لأنها تتقاطع معه في الجهوية والبنية الأيديولوجية، بل وحتى في صلات الدم. ويرى عقيل أن الدبيبة يسعى من خلال ذلك لتحقيق طموحاته السياسية وأن يتحول إلى طاغية يضرب بيد من حديد كل المعارضين لحكمه، ولذلك قام بإعطاء الميليشيا المنتصرة سلاح وأموال الميليشيا المهزومة، وفقاً له.
ونفى رئيس حزب الائتلاف الجمهوري توصيف ما قام به الدبيبة بـ"التصحيح"، لأن الفكر الميليشياوي باقٍ، والدليل على ذلك أنه بعد مقتل قائد الميليشيا التي كانت تسيطر على حي أبو سليم، وهو حي يزيد عدد سكانه عن 400 ألف نسمة ويفوق سكاناً ومساحة دولة مالطا، عاثت الميليشيا المنتصرة فيه فساداً وقامت بنهب كل شيء، حتى مقر الميليشيا المهزومة نفسه الذي يحكى أنه كان بداخله ما يزيد عن 500 مليون دينار ليبي بالعملات الأجنبية.
سيناريوهات اليوم التالي
وتتعدد السيناريوهات المطروحة حول "اليوم التالي" لرحيل الدبيبة، وهل يمكن أن يرحل بالفعل؟، حيث يرى البعض في ما قدمه المتظاهرون خارطة طريق واضحة، بينما يراهن آخرون على إعادة اقتسام الكعكة السياسية، مثلما حدث في مرات سابقة.
عبد الغني دياب، الباحث المتخصص في الشأن الليبي
في هذا الصدد، صرح عبد الغني دياب، الباحث المتخصص في الشأن الليبي ومدير وحدة الدراسات بمركز العرب للأبحاث، لموقع "المبادرة" بأن المجتمع الدولي أصبح هو من يدير الأزمة الليبية، من خلال إضفاء الشرعية على تعدد الأجسام السياسية في البلاد.
وأضاف دياب أن الإطاحة بحكومة الدبيبة أمر وارد بالفعل، لكن المشكلة تكمن في عدم توافق الأطراف السياسية على اليوم التالي لإزاحة الحكومة، مشيراً إلى أن الأطراف السياسية الحالية تتعامل مع المشهد السياسي بمنطق "الكعكة" التي يجب اقتسامها على أسس جهوية أو مناطقية، وهو ما يخلق مؤسسات غير متجانسة، ولاؤها للقبيلة أو المنطقة وليس للدولة.
إشكالية ليبيا الرئيسية منذ الإطاحة بنظام القذافي أن القرار يتخذ من قبل أطراف إقليمية ودولية، خاصة وأن حكومة الدبيبية التي تدعمها تركيا مثل حكومة السراج التي سبقتها، بينما المرة الوحيدة التي عبر فيها الشعب عن رأيه كان خلال انتخابات البرلمان 2014، وعندما أتت بنتائج ليست في صالح الإسلاميين وحلفائهم قطر وتركيا جرى الانقلاب عليها، لتشهد البلاد انقساماً منذ ذلك الوقت بين الشرق والغرب.