بث تجريبي

بيئة استراتيجية رخوة: التوجهات الإسرائيلية في جنوب سوريا – قراءة في المسارات والآليات

لم يكن سقوط نظام حزب البعث السوري في ديسمبر الماضي مجرد حلقة في سلسلة تهاوي الأنظمة التقليدية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة، بقدر ما فتح هذا الحدث الآفاق أمام إعادة صياغة المشهد الاقليمي، وإطلاق العنان للتمدد الإسرائيلي في مساحات لطالما حظيت بأهمية جيواستراتيجية خاصة في العقل الاستراتيجي الإسرائيلي. فما ان أعلن سقوط النظام، وفرار رأسه – بشار الأسد – إلى موسكو، إلا وانطلقت الآلةُ العسكرية الإسرائيلية في تنفيذ سلسلة متواصلة من العمليات العسكرية التي تراوحت الغارات الجوية والتوغلات الجوية التي أسفرت عن تدمير مئات الموقع العسكرية السورية، وسرعان ما عبَّر الجيش الإسرائيلي الخط الحدودي مع سوريا الذي حددته الأمم المتحدة في 1974 في إطار اتفاقية فض الاشتباك التي أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن انهيارها في نفس يوم سقوط النظام، بل – والأهم من ذلك – أنها أوجدت واقعًا جديدًا في الجنوب السوري وذلك على خلفية الأزمة المركبة أمنيًا واجتماعيًا وسياسيًا المنطقة التي يتشكل أغلبيتها السكانية من الطائفة الدرزية.

أولاً- أهداف إسرائيل في الجنوب السوري

1- تعزيز التفوق الجيوستراتيجي: فقد منح الاحتلال الإسرائيلي وتوغلها داخل الأراضي السورية (ما بعد الجولان المحتل) لإسرائيل السيطرة على نقاط استراتيجية مرتفعة في المنطقة، مما مكّنها من توسيع قدراتها الاستخباراتية والاستطلاعية داخل كل من سوريا ولبنان. كما توفر السيطرة على جبل الشيخ لإسرائيل قدرة مراقبة فعالة تغطي كامل جنوب شرق لبنان، مما يمنح إسرائيل تفوقًا استخباراتيًا وجغرافيًا.

في هذا الإطار، تسعى إسرائيل لإنشاء منطقة عازلة في جنوب سوريا للحد من التهديدات الأمنية المحتملة، لا سيما من إيران وحزب الله وغيره من الفصائل المنتشرة بالمنطقة. ورغم تراجع الوجود العسكري الإيراني المباشر في المنطقة، لا تزال إسرائيل تشعر بالقلق إزاء استمرار شبكات الدعم اللوجستي والبنية التحتية الاستخباراتية التابعة لهذه القوات، مُعتبرةً إياها تهديدًا أمنيًا طويل الأمد. ومع ذلك، قد تؤدي هذه الإجراءات إلى تصعيد التوترات الأمنية في جنوب سوريا.

2- تعزيز الأمن المائي: بعد تدخلها في مرحلة ما بعد الأسد، باتت إسرائيل تسيطر بشكل مباشر أو غير مباشر على معظم المناطق الغنية بالموارد المائية السطحية بالقنيطرة وغرب درعا ومنها أكثر من اثني عشر سدًا في القنيطرة ودرعا.

3- تعزيز القوة الناعمة: بجانب ذلك، ترى إسرائيل أن جهود التواصل المجتمعي في الجنوب وسيلة لتأكيد سيطرتها الأمنية على المنطقة يُعزز قوتها الناعمة بالمنطقة مما يسهل التطبيع من القاعدة إلى القمة، حيث ركزت معظم هذه الجهود حتى الآن على القنيطرة، التي أصبحت منزوعة السلاح إلى حد كبير في الأشهر الأخيرة.

بشكل عام، فإن ما سبق يمكن إسرائيل من إعادة صياغة قواعد الاشتباك مما يمنحها مرونة عملياتها أكبر في تنفيذ ضربات استباقية ضد أهداف عسكرية دون اللجوء إلى عمليات برية واسعة النطاق في المدى البعيد. 

ثانياً- اتجاهات التموضع العسكري 

في حين يمكن اعتبار الشريط الحدودي في القنيطرة والمحافظات الجنوبية منطقة تركّز للوجود الإسرائيلي، فقد أصبحت مناطق متعددة في سوريا جزءًا من مسرح عمليات نشط يساهم في تحديد المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية في البلاد، حيث بات بالإمكان فعليًا، تقسيم الوجود الميداني الإسرائيلي وتدخلاته الواسعة في سوريا منذ سقوط الأسد إلى أربع مناطق، لكل منها ظروفها العسكرية والأمنية ودوافعها الخاصة:

منطقة الانتشار النشط

تتبع منطقة الانتشار النشط حدود الشريط الحدودي المنزوع السلاح سابقًا في القنيطرة، وتمتد من الحدود السورية-اللبنانية في الشمال وصولًا إلى حوض اليرموك في الجنوب. وتُعتبر هذه المنطقة بمثابة موطئ قدم إسرائيلي داخل الأراضي السورية نفسها (على عكس الجولان السوري المحتل)، وتُستخدم كنقطة انطلاق لشَن التوغلات والعمليات العسكرية الواسعة، ولتأمين هذه المنطقة، نفذت القوات الإسرائيلية عمليات تمشيط وتجريد من السلاح شاملة في المدن والبلدات والقرى على طول الشريط الحدودي. لذلك، يتوقع أن توسع القوات الإسرائيلية هذه المنطقة لتشمل (وتحتل) كامل محافظة القنيطرة، وأجزاء من ريف دمشق ودرعا الغربي خلال الفترة المقبلة، وهو انتهاك فادح آخر للسيادة السورية والقانون الدولي.

كما تُعتبر هذه منطقة بمثابة بيئة آمنة نسبيًا لتحرك القوات، وبيئة مناسبة لتنفيذ تدخلات "قوة ناعمة" تهدف لبناء علاقات بين القوات الإسرائيلية والسكان المحليين في الجنوب. فخلال الأشهر الأخيرة، عملت إسرائيل على ترسيخ وجودها المجتمعي في المنطقة، وذلك من تسليم نحو خمس شحنات من سلال الإغاثة (تحتوي على مواد غذائية وطبية) إلى قرى أبو تينة، العشة، بريقيه، الرفيد، وسعيدة الجولان بين 10 مارس و12 مايو. وتشير التقديرات إلا أنه قد تم تنفيذ المئات من عمليات المساعدات منذ سقوط النظام السوري في ديسمبر الماضي، ورغم أن هذه الجهود قوبلت في البداية بالرفض من قِبَل السكان المحليين، حيث سُجلت عدة حالات لرفض أو تدمير سلاسل الإغاثة، إلا أن السكان أصبحوا فيما بعد أكثر تفاعلًا مع هذه المساعدات، وهو ما قد يرجع إلى التهميش الاقتصادي التاريخي في القنيطرة في عهد الأسد، إضافة إلى الانهيار الاقتصادي بعد سقوط النظام.

2- منطقة التوغلات

          تشير التقديرات إلى أن القوات الإسرائيلية قد نفَّذت ما لا يقل عن 130  توغلًا بريًا منذ أواخر العام الماضي، غير أن هذا الرقم يرتفع بشكل كبير عند احتساب أنواع العمليات الأخرى، مثلإغلاق الطرق (76 حالة)، وتدمير معدات عسكرية (13)، وإنشاء مواقع عسكرية (12)، بالإضافة لحملات الاعتقال (11)، ليصل إجمالي عمليات التوغل البرية الإسرائيلية على الأراضي السورية إلى أكثر من 200 عملية في منطقة تتسع لأكثر من 600  كيلومتر مربع، وتمتد شمالًا لتشمل القرى الدرزية المحاذية للحدود السورية-اللبنانية في ريف دمشق، كما تشمل معظم حوض اليرموك جنوب غرب درعا، وبقايا المناطق التي تسيطر عليها سوريا في القنيطرة، وعشرات الكيلومترات المربعة في جنوب غرب ريف دمشق.

3- منطقة النفوذ الجوي

          تشير العمليات الجوية الإسرائيلية السابقة التي استهدفت أصولًا إيرانية، لحزب الله، ولمواقع النظام السوري، إلى أن منطقة النفوذ الجوي الإسرائيلي تشمل كامل الأراضي السورية. فمنذ سقوط النظام السابق، طالت الضربات الجوية مواقع عسكرية من اللاذقية وطرطوس على الساحل، إلى حلب، ودمشق، ودرعا، وصولًا إلى معظم أنحاء البلاد. ومع ذلك، فإن نطاق النفوذ الجوي في الجنوب يمتد حتى دمشق والسويداء الشرقية، بما يشمل الشريط الحدودي السوري-اللبناني بالكامل، ليخدم هدفين؛ الأول فرض نزع السلاح على كل الأراضي الواقعة جنوب دمشق، والثاني منع تهريب الأسلحة من سوريا إلى حزب الله في لبنان. وقد بدأت إسرائيل بالفعل في فرض مراقبة جوية مكثفة على جنوب سوريا منذ منتصف مارس 2025 باستخدام الطائرات المسيّرة، وذلك بعد حملات تدمير شاملة للجيش السوري ومواقعه فور سقوط النظام. وكان بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يسرائيل كاتس قد أصدرا تحذيرات صريحة للإدارة السورية الجديدة من تشكيل أو نشر وحدات تابعة للجيش الجديد (التابع لوزارة الدفاع المؤقتة) في تلك المحافظات.

          وبالفعل نفذَت إسرائيل تهديداتها، حيث بدأت في 11 مارس بشن أكثر من 40 غارة جوية استهدفت معدات ثقيلة تابعة لوزارة الدفاع، بالإضافة إلى مواقع ومكاتب تم تجهيزها مؤخرًا، وذلك بعد إعلان السلطات المؤقتة عن تشكيل "الفرقة الجنوبية" أو "الفرقة 40".

ورُغم التحذيرات، حاولت الإدارة الجديدة اختبار جدية الموقف الإسرائيلي عبر افتتاح معسكر تدريب لعناصر الفرقة، لكن الرد كان سريعًا، حيث شنَّت المقاتلات الإسرائيلية في 17 مارس أكثر من 20 غارة استهدفت مواقع تابعة للفرقة، مما أدى لمقتل شخصين وإصابة 20 آخرين.

4- منطقة النفوذ الاستراتيجي

لطالما كانت التدخلات الإسرائيلية في الجنوب السوري تخضع لنوع من التفاهم الجزئي، مثل آلية التنسيق مع روسيا التي بدأت بعد تدخلها في سوريا في سبتمبر 2015، لكن كافة التحركات الإسرائيلية بعد سقوط النظام أصبحت أحادية الجانب. فقد رسمت إسرائيل حدود نفوذها الجديد بالنار، كما حدث في أبريل حين قصفت طائراتها أهم قاعدتين جويتين في وسط سوريا لإفشال مشروع تركي لإقامة قواعد جوية ونشر منصات دفاع جوي متقدمة هناك.

          وبالتالي، تُقدّر منطقة النفوذ الاستراتيجي بحوالي 53 ألف كيلومتر مربع تشمل المحافظات الجنوبية لدمشق، وريف دمشق الجنوبي، ودرعا، القنيطرة، السويداء، بالإضافة للنصف الجنوبي من محافظة حمص. 

          ما سبق يتعزز – أيضا – بقدرة إسرائيل على ترسيخ السيطرة طويلة الأمد على ممرات استراتيجية رئيسية مرتبطة بمرتفعات الجولان دمشق مثل "طريق دمشق – القنيطرة" الذي ربط  العاصمة دمشق بمرتفعات الجولان، و"طريق خان أرنبة – جباتا الخشب – الجولان داخل القنيطرة، الذي يشكل طريق وصول رئيسي إلى المناطق الحدودية، بجانب الممرات الجبلية في سفوح جبل الشيخ التي توفر طرقا لنقل التعزيزات ومناورات القوات في المنطقة. 

ثالثاً- الوضع الراهن بعد الحرب الإسرائيلية-الإيرانية

          مع تفاقم هشاشة الوضع في سوريا بعد أن شنت إسرائيل – في منتصف يونيو الماضي – موجة من الهجمات الجوية استهدفت منشآت نووية إيرانية، وقادة في الحرس الثوري (IRGC)، وعلماء، وبنية تحتية رئيسية أخرى في إيران، حيث وجدت سوريا نفسها وسط هذه الأعمال العدائية، لاسيما وأن إسرائيل قد ردت في حينها بإطلاق عدة دفعات من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة عالية السرعة. وبينما استخدم الطرفان المجال الجوي للجنوب السوري لتنفيذ هجمات عابرة للحدود، ظلت السلطات السورية عاجزة فعليًا عن التدخل رغم الإعلان أنها مُصممة على الحد من خطر امتداد القتال إلى داخل الأراضي السورية.

ورغم أنه حدة التوتر بين تل أبيب وطهران، هدأت في الوقت الحالي لكن سوريا لا تزال معرضة للخطر طالما ترى إسرائيل في عدم الاستقرار السوري تهديدًا لأمنها القومي، الذي يشمل – أيضا – خطر الجماعات المتبقية من النظام السابق، التي تنشط بحضور محدود في جنوب غرب سوريا. ورغم أن هذه الجماعات لا تمثل تهديدًا كبيرًا، إلا أنها قد تزعزع الاستقرار الأمني الهش أصلاً من خلال شن هجمات صاروخية صغيرة متفرقة نحو الجولان. كما أن مثل هذه الحوادث قد تؤدي لتقويض الثقة القليلة الموجودة بين إسرائيل والحكومة الجديدة في دمشق، وربما تعيد قواعد الاشتباك التي كانت سائدة في الجنوب الغربي أثناء حكم الأسد، حيث كانت إسرائيل تُحمّل السلطات في دمشق مسؤولية أي هجمات تنطلق من تلك المنطقة.

وبينما تحتفظ القوات الإسرائيلية بوجود عسكري دائم في شريط القنيطرة الحدودي، فقد تم توسيع هذه المنطقة خلال الصراع مع إيران لتشمل بلدات في ريف دمشق الغربي، إضافة إلى الامتداد على طول طريق دمشق–القنيطرة، حيث تكتسب هذه المنطقة الممتدة أهمية خاصة لقربها من العاصمة؛ فبلدة "بيت جن" تقع على بعد 35 كيلومترًا فقط من أطراف دمشق، ولتركيبتها الطائفية المختلطة، إذ توجد عدة قرى مسيحية ودرزية في سفوح جبل الشيخ بين الحدود السورية-اللبنانية وجنوب غرب دمشق. وبهذا، باتت منطقة عمليات التوغلات الإسرائيلية تشمل فعليًا كامل محافظة القنيطرة وحوض اليرموك في جنوب غرب درعا.

رابعاً- الوضع الراهن بعد التصعيد في السويداء

منذ توليه السلطة وبدء عملية تثبيتها بعد سقوط نظام الأسد، سعى رئيس السلطة في دمشق أحمد الشرع إلى نزع سلاح الفصائل الدرزية في السويداء، وقوات سوريا الديمقراطية في شمال شرق سوريا ودمجها ضمن وزارة الدفاع، وكذلك مجموعات أحمد العودة في شرق درعا، وغيرها من الفاعلين المسلحين في البلاد. لكن السويداء أثبتت أنها مشكلة أكثر تعقيدًا بالنسبة للشرع والسلطات المؤقتة، ليس فقط بسبب التدخل الإسرائيلي و"إعلان" إسرائيل حماية الأقلية الدرزية في سوريا، حيث تسعى إسرائيل من وراء ذلك لتحقيق هدفين؛ الأول: توجيه رسالة داخلية لطمأنة الأقلية الدرزية داخل إسرائيل نفسها؛ والثانية توجيه رسالة استراتيجية تتعلق بحماية الحدود الوطنية غير المعلنة لإسرائيل، وتأمين أمنها القومي في المنطقة.

دور إسرائيل في العنف بجسرين (جرمانا) وأشرفية صحنايا – أبريل ومايو 2025

اختبرت السلطات المؤقتة مدى جدية إسرائيل خلال الاشتباكات التي اندلعت أخيراً في جرمانا وأشرفية صحنايا. ففي 27 أبريل، تسرّب تسجيل صوتي يُنسب إلى رجل دين درزي يُهين فيه النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ما أثار غضبًا واسعًا، ودعوات للانتقام من بعض الأوساط السنية، وقد اندلعت احتجاجات عنيفة ضد التسجيل، واستهدفت طلابًا دروزًا في البداية داخل الجامعات، قبل أن تنتشر إلى نحو  70 موقعًا مختلفًا في البلاد. وفي 28 أبريل، هاجمت مجموعات مسلحة محلية ووحدات من الأمن العام منطقتين درزيتين في محيط دمشق هما جرمانا وأشرفية صحنايا، وأسفرت الاشتباكات عن مقتل العشرات من الجانبين.

في هذا السياق، حددت إسرائيل "خطًا أحمر" جديدًا، يتجاوز نزع السلاح في الجنوب؛ ففي بيان مشترك، تعهّد نتنياهو وكاتس بمنع أي هجوم يستهدف مجموعات أو مجتمعات درزية، بما في ذلك السويداء نفسها، وقالا إن الضربات الجوية الإسرائيلية في صحنايا كانت "رسالة قوية" مفادها أن "إسرائيل تتوقع من السلطات السورية منع أي ضرر يلحق بالدروز."

وقد أدى ذلك إلى تفاقم الصدام بين السلطة في دمشق والدروز، ورغم أن ضربات إسرائيل الجوية في صحنايا كبحت الطموحات المؤقتة للسلطات في السويداء مؤقتًا، فإن الخطاب القومي الطائفي نفسه عاد في يوليو الماضي، مع محاولة جديدة للتدخل في المحافظة ذات الغالبية الدرزية.

دور إسرائيل في العنف الشامل بالسويداء

بالمقارنة مع العنف الذي وقع بالقرب من دمشق، كان ردُّ إسرائيل على الهجمات المؤيدة للحكومة في السويداء أبطأ. فبعد اندلاع اشتباكات بين مجموعات بدوية وفصائل درزية في منتصف يوليو، نشرت وزارة الدفاع المؤقتة أكثر من 12 ألف عنصر تعزيز للضغط على الدروز لانتزاع تنازلات منهم، وبعد مراقبة حذرة استمرت 24 ساعة، شنَّت إسرائيل موجة من الضربات الجوية استهدفت القوات الموالية للحكومة المتقدمة في شمال وغرب السويداء، ما أسفر، حسب التقارير، عن مقتل ما يصل إلى 300 مقاتل من وزارة الدفاع والأمن العام والمجموعات المسلحة الموالية.

بعد ذلك، استهدفت ضربات جوية إسرائيلية عدة مواقع في وسط دمشق، من بينها مبنى وزارة الدفاع وقصر الشعب نفسه، في رسالة قوية موجهة إلى الشرع والسلطات المؤقتة للتراجع. لكن بعد موجة ثانية من الهجمات بين 17 و18 يوليو، قادتها ميليشيات بدوية مدعومة من السلطات المؤقتة، أظهرت إسرائيل بعض المرونة، ورغم أن إسرائيل أعلنت في البداية أنها ستسمح لوحدات الأمن العام بدخول مدينة السويداء لفترة مؤقتة، (وذلك كجزء من اتفاق وقف إطلاق نار أولي فشل لاحقًا)، ثم وافقت على اتفاق ثلاثي لوقف إطلاق النار في 20 يوليو، بوساطة سوريا والأردن والولايات المتحدة، ولا يزال صامدًا بصعوبة، ويُرجح أن هذه المرونة قد جاءت نتيجة ضغوط أمريكية لوقف القتال في الجنوب، وليس تراجعًا إسرائيليًا عن موقفها المُعلن بحماية الدروز في السويداء.

في هذا السياق، ورغم صمود وقف إطلاق النار الثلاثي، ورغم وجود بؤر اشتباك على محاور رئيسية في شمال محافظة السويداء، فإن الخطاب بين الدولة المركزية والدروز بات هشًا، إن لم يكن مكسورًا بالفعل. كما انه رُغم اللغة المستخدمة، فإن موجات جديدة من العنف باتت شبه مؤكدة في المستقبل، الأمر الذي يؤكد على الدور المتزايد والمُزعزع للاستقرار الذي تلعبه إسرائيل في جنوب سوريا.

وفي غضون ذلك، عُقد اجتماع ثلاثي بين مسؤولين من سوريا والأردن والولايات المتحدة في عمّان في 12 أغسطس، أسفر عن تشكيل فريق عمل لمراقبة وقف إطلاق النار. ومع ذلك، يبدو أن السلطات المؤقتة تنظر إلى وقف إطلاق النار الحالي "كخطوة تكتيكية"، وبرغم الحصار المفروض حول السويداء منذ منتصف أغسطس، إلا أنه يرجح أن تُستأنف الهجمات الكبرى على المحافظة بمجرد أن يُحدّد الشرع استراتيجيته التالية، وتنتهي صلاحية هذا الهدوء المرحلي.

خامساً- سيناريوهات المستقبل

مع استمرار الوضع الراهن، يمكن أن تتراوح التحركات الإسرائيلية في الجنوب والعمق السوري مستقبلا على بين السيناريوهات التالية: 

السيناريو الأول- استمرار التصعيد العسكري: حيث وفرت البيئة الرخوة التي تكرست في الجنوب السوري منذ سقوط النظام السابق فرصةً لإسرائيل للمضي في توسيع عملياتها العسكرية مستغلةً الفراغ الأمني ​​وعدم الاستقرار الداخلي، وقد يسهم في زيادة التوترات مع القوات السورية التي تحاول إعادة فرض سيطرته على الجنوب. 

السيناريو الثاني- الوساطة الدولية والتدخلات الاقليمية: حيث تسعى الولايات المتحدة والأمم المتحدة لكبح جماح إسرائيل من خلال إدخال ترتيبات أمنية جديدة قد تشمل قوات دولية لمراقبة الحدود. 

السيناريو الثالث- التسوية السياسية وإعادة رسم مناطق النفوذ: فالمحادثات الجارية بين حكومة دمشق وتل أبيب سواء في أذربيجان أو فرنسا قد تنتهي إلى إعادة تحديد مناطق النفوذ والانتشار العسكري، ووضع آليات لموازنة المخاوف الأمنية الإسرائيلية مع الاستقرار الاقليمي وضمان ترتيب أمني قابل للتطبيق. 

أخيرًا، فمع اتساق نطاق البيئة الرخوة التي كرَّسها التحول الاستراتيجي الناجم عن سقوط النظام السوري السابق وتراجع النفوذ الإيراني أواخر العام الماضي، تندفع إسرائيل نحو توسيع نفوذها في الداخل السوري لتحقيق أهداف جيوسيتراتيجية. ورغم ادعاء تل أبيب في البداية أن وجودها في سوريا ما بعد الأسد سيكون "مؤقتًا"، إلا أن التطورات الأخيرة تؤكد مساعي تل أبيب نحو تعزيز الوجود العسكري على الأراضي السورية. ورغم أن الهجمات الجوية المتكررة والاقتحامات البرية الإسرائيلية تُبرَّر بخطاب "نزع السلاح في جنوب سوريا"، إلا أن المجمل يُظهر أهدافًا استراتيجية بعيدة المدى، تمنح إسرائيل دورًا محوريًا وعامل مؤثر في التحوّل السياسي والأمني لسوريا ما بعد الأسد.

.. نقلاً عن موقع سياست للدراسات والبحوث الاستراتيجية 

قد يهمك