بحسب كتاب المنطق عند هيغل سيطرح مصطلحاً سيُعدّ بمثابة سطحٍ فكري على كامل الفلسفة والتي اتخذها ماركس ومن بعده وهو مصطلح التجاوز والترك ويقصد به هيغل إدماج ما أصبح متجاوزاً مع ما يوجد به من عناصر صحيحة.
أعلن حزب العمال الكردستاني في ربيع 2025 عن إنهاء الكفاح المسلح والبدء بمرحلة جديدة.
دائماً ما كانت مشكلتنا هي في التسرع أو لنقل في القفز على المعنى العميق الذي يطرحه الواقع، فمثلاً عندما أراد أوجلان تغيير البراديغم حزب العمال الكردستاني في 2002-2003 حدث ما يمكن تسميته بصدمة أبستمولوجية في إدراك ما يريده هذه الصدمة كانت محل شك إلا أن قامت الثورة السورية وأدركنا أنه لولا هذا الطرح وهذه الثورة الذهنية فإننا في أفضل حالاتنا كنا سنتحول إلى مطالبي قومية مفلسة أو إلى مدّعيي يسارية منهكة. في ذلك التغيير البراغماتي أدرك أوجلان منه أن زمن الأحزاب بالمعنى الكلاسيكي قد ولّى وأنه آن الأوان أن نطرح سياقاً مغايراً سمّاه بالأمة الديمقراطية أي أن حزب العمال قد حلّ نفسه ذهنياً منذ أكثر من أربعة وعشرين عاماً وما حدث الآن هو حلّ الحزب بطريقة عملية ومن ثم فإن أوجلان أراد أن يحول الحزب من نمط تفكير كلاسيكي إلى ميراث معنوي حيث أدرك أوجلان بشكلٍ ما أن تاريخ شعبٍ ما لا يبدأ إلا من خلال إنشاء ميراثٍ معنوي يُعد بمثابة نقاطٍ علّامة ترجع فيه الشعوب عندما تمر بأزمات. في هذه الأيام الحديثة يطرح علينا أطفال السياسة مقولة أن حزب العمال يتخلى عن سلاحه ويتحول ثواره "الكريلا" إلى لاجئين. هذا السخف في التعامل مع الواقع إنما ينمّ عن جهل متعمدٍ وأفقٍ سطحي.
سيترك حزب العمال سلاحه ولكن لن يتخلى عنه فالترك شيء والتخلي شيء آخر فمثلاً قد تترك والديك ولكن لن تتخلى عنهم بمعنى آخر أن مصطلح الترك حسب الهيرومونطيقية الهيغلية هي إنتاج علاقة أخرى مع من تريد تركه وهذا لا يدخل تحت بند التخلي أي أنك فقط تقول أن نوعاً ما من العلاقة قد تغير وتعيد ترتيب العلاقة مع هذا الشيء. إذاً فحزب العمال الكردستاني يعيد ترتيب علاقته مع هذا السلاح. أما لماذا؟ فالسلاح بالنسبة للكرد عموماً وحزب العمال الكردستاني خصوصاً لا يحمل معنىً تقني أو دفاعي هو بمثابة حالةٍ ميتافيزيقية السلاح هو علاقةٌ تتجاوز حدود التعامل مع تطور تكنولوجي أو حالة دفاعية صرفة ، فالسلاح بالنسبة للكرد حالة أنطولوجية تستغرق المعنى المعد قبلياً من جهة الدولة، قد تتخلى ميليشيا ما عن سلاحها أو تطور دولة ما من أسلحتها لكن السلاح بالنسبة للكرد هي علاقةٌ بينية تتجاوز المعاني السالفة.
يدرك حزب العمال الكردستاني والكورد أن السلاح في هذه الأزمنة الحديثة أو لنقل في هذا العصر الذي يمكن تسميته حسب السياق الأوجلاني ما بعد الدولة هو بمثابة المعوّل الوحيد لمسألة الحياة ولكن ماذا نعني بالسلاح وما بعد الدولة؟ هناك علاقة عضوية بين الحفاظ على سلاحك وبين إنهيار الدولة بالمعنى المتعارف عليه بمعنى آخر أننا نعيش في ما يمكن تسميته بهشاشة الدولة الهوبزية. أرّخ هوبز عن الليفيثيان واعتبره بديلاً عن الكنيسة وأناط به شرطاً وجودياً وحقوقياً فبالنسبة له أننا نتخلى وبمحض إرادتنا عن حريتنا وقدرتنا على استعمال العنف لصالح الدولة التي يتوجب عليها أن تحمينا من أنفسنا ومن الخارج، وبحسب الليفيثيان الهوبزي هناك شرطين لظهور الدولة أو للحاجة إلى الدولة أولهما الحماية الخارجية وثانيهما الحماية الداخلية وأن الدولة توجد اعتماداً على هذين الشرطين لم يكن هوبز بذاك الذي يبشّر بالإستبداد جزافاُ وإنما رأى أنه من اللازم أن ننشئ الليفيثيان الخاص للدولة لكي تحمي الجماعة نفسها من نفسها ولكن والسؤال هنا و حسب الإشتراط الهوبزي هل بقي من الدولة شيء؟ ألم تتنازل الدولة عن دورها أو لنقل هل بقي بمقدورها أن تحمي مجتمعاتها ليس فقط من مواجهة العدو الخارجي بل أيضاً من حماية الجماعة من أنفسهم وبعبارة أكثر دقة ألا نعيش في حواضن الشرق مسألة إنهيار الدولة أو لنقل تخليها عن اشتراطات وجودها، ألا تعد الدولة السورية الحالية بمثابة نقيضٍ تام للدولة الهوبزية القادر على حماية شعوبها. فبحسب الليفيثيان الهوبزي من يستطيع منعي من أن أقتل إنساناً آخر داخل الجغرافية السورية؟ الإجابة لا أحد إذاً وبعبارة واحدة مات الليفيثيان ونحن على عتبة إنشاء نمط آخر من أشكال أخرى من الحماية. يقدم لنا تريفان تودورف جملة أسباب لتناول نهاية الدولة الوطنية ومن أهمها إضعاف الشعور الوطني "تأزم الهوية الوطنية" وظهور الجماعات الإثنية المتنوعة، وإنهيار الخطاب الواحدية، وتقوية الشبكات العابرة للدول "نسف الحدود" أضف إلى ذلك إنهيار العامل الوجودي "تأمين الحماية" والذي ينص عليه العقد. هذه الأسباب تضع الدولة في حرجٍ أخلاقي أمام مجتمعاتها. وأمام هذا الضعف والحرج يرى أوجلان وهنا يتكلم أوجلان بالتحديد عن الشرق الأوسط فيرى أن موزاييك الشرق سيضطر إلى ممارسة نفسه خارج إطار الدولة وبالتالي ستضطر إلى إنتاج أنظمة مقاومة في مواجهة الدولة لكونها تعمل وتتعامل خارج نظام الدولة.
تركيا تريد أن تعيد آلة الدفاع الذي استملكه حزب العمال الكردستاني منذ عقود إلى الجهاد البيروقراطي للدولة في هذا السياق يقول كل من جيل دولوز وفيليس غوتاري بأن الدولة دخلت في صراعٍ عنيف مع المجتمع للإستيلاء على آلة الحرب أي الأسلحة الخاصة بهم فآلة الحرب كما يدّعي كلا الفيلسوفين إنما هو عامل شكل خارج إطار الدولة، إن الدولة حسب وصفهما لم تخترع آلة الحرب بل استولت عليها، إن الهدف الأول هو القبض على مكنة الحرب وتأسيس قدرة حربية للدولة، من خلال مأسستها وحرفنة آلة الحرب أي تحويل السلاح من نمط دفاعي إلى شكل تكنولوجي وذلك بغية استعماله ضد أولئك المنفلتين من قبضتها، أي من نفس أولئك الذين تخلوا عن أسلحتهم فالدولة دون هذا الإخضاع للمكنة الحربية لا معنى لها لذلك دائماً ماكانت الدولة متخوفة من أولئك الذين باستطاعتهم السيطرة على آلة الحرب وإنتاجها.
العلويون ومسار التخلي عن السلاح أو كيف أعاد العلويون كرّة الإعتماد على الدولة: بعد سقوط الأسد في 8/سبتمبر وسقوط منظومة الدولة القومية أعلن العلويون المتواجدون في الساحل السوري وعبر بيانٍ لهم تخليهم عن أسلحتهم للدولة الجديدة هذا البيان كان بمثابة الإنتحار الوجودي والتمهيد بإرتكاب أبشع المجازر بحق هذه الطائفة التي أجارت على نفسها بإلصاق وجودها بالدولة السورية في عهد الأسد وأعادت هذه المحاولة بأن حولت مصيرها إلى ساحة مفتوحة أمام جهة ترى فيها أعداءً لاهوتيين. إن السياق العلوي في العقود الأخيرة قام على خطأين:
أولهما اعتمادهم على ظاهرة الدولة والنقص المعرفي في إدراك أن مفهوم الدولة بالمعنى الذي تكلم عنه هوبز وميكافل أصبح غير وارد أي تلك الدولة التي تنزع عنك إرادتك وحريتك في استخدام العنف والسلاح وذلك بهدف حمايتك هذا الشكل من الدولة قد سقط ولم يعد متوفراً.
أما الثاني فهو التخلي عن السلاح إن بنية الشرق الأوسط علّمتنا وبشكل لا نهائي أننا ما دمنا نعيش في دول لا يُدرك فيه معنى الوطن فإن السلاح هو الشيء الوحيد الذي نضطر فيه لإبقائه والإحتفاظ به بغية حماية أنفسنا ومن ثم فإن أي تخلي عن السلاح مهما كان بريئاً فإنه بمثابة تكرار التجربة العلوية وإعادة الإعتماد على الدولة. يرى أوجلان أن المجتمعات تنتج لنفسها حضوراً في اللحظة التي تتخلى فيها عن الدولة وتشكل أوجه اعتماداتها على ذاتها الحرة من غير أي تعويل على ظواهرها، إن الوثيقة السيسيولوجية لأوجلان هي كيف نحرر المجتمع من ربقة الدولة وهو يرى أن هذا التحرر يحتاج إلى غطاء دفاعي لا بد منه وأن هذا الغطاء هو بمثابة حمايةٍ للمجتمع.
وبالتالي وأمام هذه النتيجة فإن موضوع التخلي عن السلاح هو متناقض تماماً مع الطرح الأوجلاني إن أوجلان لا يعيد ما حصّله للمجتمع خلال تاريخ نضاله ضد الدولة ويعيد تقديمها للدولة بل هناك تغيرٌ في نمط العلاقة مع الأشكال الكلاسيكية أي كما قلنا يريد أوجلان أن يعيد ترتيب علاقتنا مع السلاح وليس، أي وبجملة واحدة يريد أن نتجاوز السلاح بالمعنى الذي نهض به هيغل وليس التخلي عنه.
من زوايا العالم