تعيش سوريا في هذه الفترة مرحلة مفصلية بعد سقوط نظام "بشار الأسد" وتولي الرئيس المؤقت "أحمد الشرع" زمام الأمور. فقد شهدت البلاد تحولات هامة وحرجة ، أبرزها رفع العقوبات الدولية، وبدء مسار دمج قوات سوريا الديمقراطية "قسد" في مؤسسات الدولة، وسط تحديات تتعلق بالنفوذ الأجنبي وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس توافقية تراعي التنوع السوري وتحفظ استقلال القرار الوطني.
وتسم هذه المرحلة بترقب داخلي وإقليمي ودولي مشوب بالحذر، إذ تتقاطع الآمال الشعبية في الخلاص من إرث القمع والفساد، مع مخاوف حقيقية من الانزلاق في أزمات جديدة، ما لم تُضبط العملية الانتقالية بإرادة سياسية وطنية جامعة. فمع أن رفع العقوبات الدولية شكّل بارقة أمل لتعافي الاقتصاد السوري وعودة الحركة التجارية والمالية، إلا أن التحدي الأكبر لا يزال متمثلاً في ترجمة هذا الانفراج إلى إصلاح مؤسسي حقيقي، يُفضي إلى إعادة هيكلة مؤسسات الدولة وفق قواعد الشفافية والمواطنة، ويضمن إعادة اللاجئين والمهجّرين، وتحقيق العدالة الانتقالية، وبناء عقد اجتماعي جديد يُعيد الثقة بين الدولة والمجتمع.
وتأسيسًا على ما سبق، يسعى هذا التحليل إلى تفكيك المشهد السوري الراهن من خلال قراءة أبعاد رفع العقوبات، ورصد ديناميات التوافق الوطني، وتحليل محددات النفوذ الأجنبي داخل مؤسسات الدولة، بهدف تقديم رؤية نقدية لفرص الاستقرار وتحدياته في المرحلة الانتقالية.
هندسة الشرعية والضغط المشروط:
في مايو 2025، أعلنت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عن رفع جزئي للعقوبات المفروضة على سوريا، مستثنية العقوبات المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان. وتأتي هذه الخطوة في إطار دعم الحكومة السورية المؤقتة بقيادة الرئيس "أحمد الشرع"، وتشجيعها على تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية. يشكّل القرار الأمريكي–الأوروبي لحظة مفصلية في سياق التحول السياسي الذي تعيشه البلاد عقب سقوط نظام "بشار الأسد". فقد جاء هذا القرار ليمنح الحكومة السورية المؤقتة دفعة أولى من شرعية الواقع، باعتبارها شريكًا محتملاً في مشروع إعادة بناء الدولة السورية، وذلك بعد سنوات من العزلة والعقوبات التي شلّت الحركة الاقتصادية والدبلوماسية للبلاد.
ففي هذا الإطار، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية إصدار الترخيص العام رقم 25، والذي يسمح بتنفيذ معاملات مالية وتجارية مع الحكومة السورية، بما في ذلك البنك المركزي والشركات المملوكة للدولة، لمدة 180 يومًا قابلة للتجديد. كما أصدرت وزارة الخارجية إعفاءات جزئية من قانون قيصر، تُتيح استثمارات موجهة نحو البنية التحتية والخدمات الأساسية، مع الإبقاء على العقوبات المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان، مما يعكس نهجًا مرحليًا مشروطًا بمدى التزام الحكومة المؤقتة بخارطة الإصلاح.
في ظل هذا التحول، يبدو واضحًا أن رفع العقوبات لم يكن مجرد إجراء اقتصادي، بل أداة سياسية بامتياز، تستهدف إعادة تشكيل البيئة السياسية السورية وفق شروط دولية، تتصدرها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. فالحوافز الاقتصادية جاءت مرتبطة بمنهج "الخطوة مقابل الخطوة"، حيث يُنتظر من الحكومة المؤقتة أن تُظهر التزامًا واضحًا بمعايير الحكم الرشيد، ومحاربة الفساد، وإطلاق مسار للعدالة الانتقالية، كشرط لاستمرار رفع العقوبات أو توسعتها.
ويعكس هذا النهج رغبة الفاعلين الغربيين في تجريب مقاربة جديدة بعد فشل العقوبات القصوى في تغيير سلوك النظام السابق. فبدلاً من الضغط عبر الخنق الاقتصادي، يُعاد توجيه النفوذ الاقتصادي في هذه المرحلة نحو تحفيز سلوك الدولة الجديدة وضبط تفاعلاتها مع الداخل والخارج. ومن هنا، فإن رفع العقوبات لا يُفهم فقط كدلالة على "مكافأة" لحكومة "الشرع"، بل كمؤشر على دخول سوريا مرحلة جديدة من إعادة إنتاج الشرعية على أسس توافقية، يتم فيها اختبار قدرة القيادة الانتقالية على إدارة التوازنات المحلية والدولية.
في السياق نفسه، يتقاطع قرار رفع العقوبات مع الحسابات الجيوسياسية المرتبطة بإدارة النفوذ في سوريا ما بعد "الأسد". فالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لا يسعيان فقط إلى دعم عملية الاستقرار، بل كذلك إلى كبح تمدد النفوذ الإيراني والروسي، عبر تمكين حكومة مركزية قادرة على احتواء القوى المسلحة المحلية وإعادة ضبط العلاقة مع الحلفاء الخارجيين. وهو ما يتطلب توفير بيئة سياسية قابلة للتفاوض، وهوية حكم تتجاوز منطق الغلبة، نحو بناء عقد اجتماعي جديد أكثر شمولًا وتوازنًا. ولذلك، فإن دلالة هذا القرار لا تنحصر في إحداث انتعاش اقتصادي جزئي، بل في فتح مسار سياسي مشروط، يجعل من الدولة السورية المؤقتة طرفًا مراقبًا ومُقيَّمًا دوليًا، في لحظة تعيد فيها القوى الكبرى رسم خرائط النفوذ في الإقليم. وهنا تتحدد جدية الالتزام الدولي باستقرار سوريا، لا من خلال التصريحات، بل عبر آليات الدعم الممنهج والمتدرج القائم على التقييم السياسي والحقوقي، وليس فقط على "الاحتواء الجيوسياسي".
تداعيات عديدة:
مع بدء المرحلة الانتقالية، تبرز التطورات الداخلية كأحد أبرز محددات نجاح التحول السياسي في سوريا. فالمشهد الراهن يتسم بتداخل عوامل متشابكة تتطلب إدارة دقيقة لتحقيق التوازن بين متطلبات الإصلاح ومقتضيات الاستقرار. ويأتي التوافق الوطني في صدارة هذه التحديات، بوصفه الإطار الحاكم لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة، تضمن تمثيلًا عادلًا لمكونات المجتمع السوري، وتُعيد تعريف العلاقة بين المركز والأطراف.
وفي هذا السياق، يمكن رصد جملة من التداعيات السياسية والاجتماعية التي باتت تؤثر في دينامية المرحلة الانتقالية، وتُلقي بظلالها على فرص نجاحها، من أبرزها:
1- هشاشة الثقة بين القوى السياسية: رغم تشكيل حكومة شرعية انتقالية بقيادة "أحمد الشرع"، لا تزال بعض القوى السياسية والمجتمعية تُبدي ترددًا في الانخراط الكامل في العملية السياسية، إما بسبب موروثات القمع السابق، أو خشية من استئثار طرف دون آخر بالسلطة. وقد انعكس ذلك في بطء إجراءات المصالحة الوطنية، وفي ضعف التنسيق بين الأجهزة الإدارية المؤقتة والمجالس المحلية في عدد من المناطق، ما يُهدد بتعثر مسار إعادة بناء الدولة إذا لم تُعالج هذه الفجوة في الثقة عبر آليات شراكة حقيقية تضمن التوازن والشفافية.
2- إعادة هيكلة مؤسسات الدولة: تشكل عملية تفكيك الإرث المؤسساتي للنظام السابق وإعادة تشكيل أجهزة الدولة على أسس مهنية غير مؤدلجة تحديًا جوهريًا في المرحلة الانتقالية. فالعديد من المؤسسات ما زالت تعاني من ازدواجية السلطة، وضعف البنية الإدارية، وغياب الكوادر المؤهلة، الأمر الذي يُبطئ عملية تنفيذ السياسات العامة. كما تتطلب هذه المرحلة إصلاحات دستورية وتشريعية واسعة لضمان حقوق الأفراد والجماعات، بما في ذلك إعادة النظر في قوانين الأحزاب، والإدارة المحلية، وآليات الرقابة والمحاسبة.
3- النفوذ الأجنبي والتوازنات الإقليمية: رغم محاولات الحكومة المؤقتة استعادة زمام المبادرة الوطنية، فإن مشهد السيطرة الميدانية ما زال يحمل تأثيرات لقوى إقليمية، أبرزها إيران وروسيا وتركيا، فضلًا عن بقايا قوات أجنبية تعمل في مناطق متفرقة. وهذا ما يفرض على الدولة الانتقالية خوض معركة سيادة متدرجة، توازن فيها بين متطلبات الشراكة الدولية وبين أولوية استعادة القرار الوطني المستقل، مع ما يتطلبه ذلك من ترتيبات أمنية وسياسية طويلة الأمد.
4- إبراز أهمية الاعتراف بالمجتمع الكردي وضمان المواطنة المتساوية: أحد أبرز الاختبارات في مسار التوافق الوطني يتمثل في كيفية دمج المجتمع الكردي في مؤسسات الدولة الجديدة بوصفه مكونًا أصيلًا من الهوية الوطنية السورية. وقد بدأت بالفعل خطوات عملية لدمج "قسد" ضمن تشكيلات الدولة، وتُجرى حوارات سياسية برعاية دولية لصياغة تصور يضمن الاعتراف بالهوية الثقافية الكردية، ومنح الحقوق الدستورية، والمواطنة الكاملة دون تمييز. ويُتوقع أن تتضمن المرحلة المقبلة ترتيبات خاصة على مستوى الإدارة الذاتية، والتعليم، واللغة، بما يضمن الشراكة الفعلية ويحول دون تكرار مشاهد الإقصاء التاريخي التي عانى منها الأكراد لعقود.
5- تعقيد المسألة الاقتصادية وتأثيرها على الاستقرار الاجتماعي: رغم الرفع الجزئي للعقوبات، إلا أن الواقع الاقتصادي لا يزال هشًا، مع انهيار البنية التحتية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، ونقص الخدمات الأساسية في كثير من المناطق. وهو ما يُشكل تهديدًا حقيقيًا لفرص الاستقرار إذا لم تُقرن المساعدات الدولية بإستراتيجية تنمية مستدامة، تقوم على التوزيع العادل للموارد، ودعم المبادرات المحلية، وتحقيق التوازن بين المركز والمحيط.
6- العدالة الانتقالية والسلم الأهلي: يبقى ملف العدالة الانتقالية أحد أعقد الملفات المطروحة، نظرًا لتراكم الانتهاكات خلال السنوات الماضية، وتداخل الفاعلين المتورطين. فنجاح الدولة الجديدة في بناء شرعية حقيقية مرهون بقدرتها على كشف الحقيقة، وإنصاف الضحايا، ومحاسبة المسؤولين دون الوقوع في فخ الانتقام أو التسييس، وهو ما يتطلب آليات قضائية مستقلة، وهيئات تقصي حقائق تتسم بالكفاءة والحياد، لتحقيق العدالة الانتقالية، تمتلك صلاحيات قضائية وموارد كافية، وتعتمد منهجًا تشاركيًا يضمن مشاركة الضحايا والمجتمعات المحلية، ويُفضي إلى مصالحة وطنية حقيقية تُعيد اللحمة إلى المجتمع السوري.
التحديات المحتملة:
تواجه الحكومة الانتقالية السورية مجموعة معقدة من التحديات التي تعرقل مسارها نحو تحقيق الاستقرار وبناء دولة قادرة على استيعاب كافة مكونات المجتمع السوري. ويمكن تقسيمها على النحو التالي:
1- وجود الأجانب داخل المؤسسات السورية: يُعد وجود قوى أجنبية داخل المؤسسات الحكومية السورية من أكبر العقبات التي تواجه إعادة بناء الدولة واستعادة سيادتها الكاملة. هذا الوجود، الذي يشمل تدخلات متعددة من جهات إقليمية ودولية، يخلق حالة من التعقيد والارتباك في هياكل السلطة، حيث تُفرض قرارات وتوجهات لا تتوافق بالضرورة مع مصالح الشعب السوري أو أولويات الحكومة الانتقالية. فعلى سبيل المثال، التدخل التركي في مناطق معينة من سوريا يفرض واقعًا مغايرًا للسيادة الوطنية، ما يجعل من الصعب على الحكومة الانتقالية فرض نفوذها وتوحيد المؤسسات تحت سلطة مركزية.
2- تهديد الاستقلالية الوطنية والقرار الحر: النفوذ الأجنبي المستمر يحد من قدرة الحكومة السورية على اتخاذ قرارات مستقلة تُعبر عن مصالحها الوطنية الحقيقية، ويقيد قدرتها على رسم السياسات الداخلية والخارجية بحرية. هذا التداخل يُعزز الانقسامات السياسية والجغرافية التي تقسم البلاد إلى مناطق نفوذ متعارضة، ويؤدي إلى تعميق الصراعات الداخلية وإضعاف وحدة الدولة. في ظل هذه الظروف، يصبح اتخاذ القرارات المصيرية مرتبطًا بموافقات أجنبية، مما يعرقل تنفيذ خطط إعادة البناء والتنمية.
3- تحديات إعادة الإعمار الأخلاقي والثقافي: إلى جانب الضرر المادي الذي لحق بالبنية التحتية، تواجه سوريا تحديًا أكبر في إعادة بناء الهوية الوطنية وتعزيز قيم المواطنة والتعايش السلمي. سنوات الصراع الطويلة خلقت جروحًا نفسية واجتماعية عميقة، وزادت من النزعات الطائفية والقبلية التي تهدد النسيج الاجتماعي. إعادة الإعمار الثقافي والأخلاقي تتطلب جهودًا مستمرة لتطوير التعليم، تعزيز الحوار الوطني، وإرساء مبادئ العدالة والمساواة، وهو أمر حاسم لضمان استقرار دائم ومجتمع متماسك.
4- تداخل الأجندات الاقتصادية الخارجية: غالبًا ما تكون الاستثمارات الأجنبية في مرحلة إعادة الإعمار مرتبطة بشروط وأجندات سياسية أو اقتصادية قد لا تتماشى مع مصلحة سوريا الوطنية. هذه الشروط قد تفرض تبعيات جديدة على الدولة، مثل التنازل عن موارد أو التحكم في قطاعات استراتيجية، مما يحد من استقلال القرار الاقتصادي ويجعل الدولة عرضة للضغط الخارجي. في هذا السياق، يصبح من الضروري وضع آليات شفافة وواضحة لإدارة الاستثمارات بما يضمن حماية المصالح الوطنية وعدم التفريط في سيادة القرار الاقتصادي.
5- مخاطر تراجع التمويل الدولي المفاجئ: تعتمد المرحلة الانتقالية في سوريا بشكل كبير على التمويل الدولي لتمويل المشاريع الإصلاحية والتنموية. هذا الاعتماد يجعل الحكومة الانتقالية عرضة لتقلبات السياسة الدولية التي قد تؤدي إلى تخفيض الدعم أو سحبه فجأة، خصوصًا مع تغير الأولويات أو المصالح الدولية. توقف التمويل المفاجئ يمكن أن يعرقل تنفيذ برامج إعادة الإعمار ويؤدي إلى توقف الخدمات الأساسية، مما يزيد من معاناة السكان ويضعف فرص الاستقرار السياسي والاجتماعي.
ختامًا
يبقى الأمل في استقرار سوريا مرتبطًا بإرادة سياسية صادقة للانفتاح والتصالح وبناء وطن يضم الجميع. رفع العقوبات قد يكون نقطة بداية، لكن ما لم يترافق ذلك مع توافق داخلي حقيقي، وقرارات جريئة تعيد بناء الدولة على أسس عادلة، فإن الفرصة قد تضيع مجددًا. والكرد، الذين قدموا تضحيات كبيرة خلال الصراع السوري والحرب ضد "داعش"، يجب أن يكونوا جزءًا أصيلًا من أي تسوية، لا بوصفهم أقلية تطالب بحقوق، بل كمكون وطني كامل الشراكة. كما أن إنهاء النفوذ الأجنبي داخل المؤسسات يتطلب رؤية سورية مستقلة، وحوارًا مستمرًا، وإيمانًا بأن مستقبل سوريا لا يُصنع إلا بأيدي أبنائها.
ولكن، على الرغم من أن هذه الرؤية تتضمن عناصر إيجابية، إلا أنه لا بد من التنويه إلى أن عدم وضوح آليات التنفيذ وتحديات الواقع الميداني قد يعرقل تحقيق الاستقرار المنشود، مما يستدعي تحركًا جادًا وشاملًا من كافة الأطراف السورية والدولية لضمان تحويل هذه الفرص إلى إنجازات ملموسة على الأرض.