شهدت مدينة الحسكة، أمس الجمعة، انعقاد "كونفرانس وحدة الموقف لمكوّنات شمال وشرق سوريا"، في مرحلة وصفها المشاركون بالدقيقة والمفصلية في مسار البلاد. وجاءت مخرجاته محمّلة برسائل سياسية واضحة بشأن مستقبل سوريا، ومستندة إلى رؤية تقوم على التعدّدية والعدالة والشراكة الحقيقية في بناء الدولة، وذلك بالتزامن مع تصريحات مسؤولي قوات سوريا الديمقراطية المتواترة بشأن سوريا ديمقراطية لا مركزية.
وأبرز ما ميّز البيان الختامي هو تسليطه الضوء على الظلم التاريخي الذي تعرّضت له المكوّنات القومية والدينية في شمال وشرق سوريا، جرّاء سياسات مركزية سابقة وصفها المشاركون بالممنهجة في تهميش الهويات وإضعاف النسيج المجتمعي. كما اعتبر الكونفرانس أن هذه الممارسات ما زالت مستمرة بأشكال مختلفة، وتصل في بعض المناطق إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية، بما يستوجب تحقيقاً محايداً ومسار عدالة حقيقياً.
شكل الدولة المنشودة
كما أظهر البيان وضوحاً في الرؤية بشأن شكل الدولة المنشودة، من خلال تأكيده على مشروع لا مركزي يقوم على دستور ديمقراطي يكرّس التنوع ويعيد توزيع السلطة والثروة بشكل عادل، مشدّداً على أهمية الإدارة الذاتية بوصفها نموذجاً قابلاً للتطوير، وعلى ضرورة تمثيل جميع المكوّنات ضمن المؤسسات السياسية والإدارية، في خطوة ترمي إلى إنهاء الإقصاء وضمان المشاركة الفعلية.
وتعليقاً على بيان الكونفرانس، أشادت ليلى موسى، ممثلة مجلس سوريا الديمقراطية في القاهرة بالبيان، وقالت إن ما خلص إليه الكونفرانس من مواقف وتوصيات يعكس بصدق تطلعات أبناء شمال وشرق سوريا نحو مستقبل وطني جامع، قائم على قيم التعدّدية والشراكة والمساواة.
وأضافت أن هذا البيان، بما تضمّنه، يُعدّ خطوة مهمة على طريق ترسيخ مشروع وطني ديمقراطي يضمن لكل مكوّن دوره وحقوقه، ويُجسّد المعنى الحقيقي للمواطنة. وتابعت: "نحن نؤمن بأن سوريا المستقبل يجب أن تُبنى على هذه الأسس، بعيداً عن الإقصاء والتهميش، وأن يكون فيها مكان آمن وعادل للجميع، بمختلف انتماءاتهم وهوياتهم".
وأكّدت السياسية البارزة أن ما ورد في البيان يُجسّد أيضاً روح المسؤولية الجماعية، ويعبّر عن رؤية واضحة لسوريا ديمقراطية لا مركزية تضمن العدالة، وتحمي التنوع، وتحترم كرامة الإنسان، مشدّدة على أن هذا هو الطريق الذي ينبغي نؤمن به ونعمل لأجله مع جميع القوى الوطنية الحريصة على بناء سوريا جديدة لكل السوريين دون استثناء. ونوّهت إلى أن ذلك يتطلّب إعادة النظر بشكل كامل في آليات إدارة المرحلة الانتقالية، ولا سيما الإعلان الدستوري.
دور قوات سوريا الديمقراطية
لم تغب القضية الأمنية عن الكونفرانس، إذ نوّه البيان بدور قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، واعتبرها نواةً لبناء جيش وطني جديد يعكس التنوع السوري ويحمي السيادة. وأشار إلى ضرورة مشاركة المرأة والشباب والمجتمع المدني في عملية إعادة البناء، داعياً إلى عقد مؤتمر وطني شامل يجمع جميع القوى الوطنية والديمقراطية، ويعيد رسم الهوية الوطنية الجامعة، باعتبار ذلك بوابةً للخروج من المأزق السوري الممتد.
وعلى ذكر قوات سوريا الديمقراطية، أكد سيبان حمو، عضو القيادة العامة لقوات سوريا الديمقراطية، في تصريحات أدلى بها أمس الجمعة، أن "قسد" ملتزمة بمشروع بناء سوريا ديمقراطية لا مركزية، وترفض العودة إلى النظام السابق أو أي صيغة استبدادية جديدة، مشدداً على أن الحكومة الانتقالية الحالية بقيادة أحمد الشرع تمثّل استمراراً لنهج القمع.
كما أكد أن تغيير الأسماء لا يعني تغيير العقلية، مشيراً إلى استعداد "قسد" للانضمام إلى جيش وطني سوري ضمن رؤية شاملة، شرط التخلي عن الاستبداد. كما أكد رفضه التعامل مع الحقوق كـ ’مِنح‘، نافياً أي تهديد لتركيا، ومشدداً على أن نهج الحكم الحالي يقود البلاد إلى مصير مشابه للنظام السابق.
وتعليقاً على تلك التصريحات، قال الكاتب الصحفي المصري فتحي محمود إن التصريحات الأخيرة التي أدلى بها سيبان حمو تعبّر عن وعي سياسي ناضج وإدراك عميق لطبيعة الأزمة السورية وجذورها، مشيداً بالطرح الذي قدّمه حمو كخريطة طريق لبناء سوريا جديدة على أسس ديمقراطية ولا مركزية وتعدّدية.
وأكد محمود أن الإصرار على رفض العودة إلى نماذج الاستبداد السابقة، سواء بصيغتها القديمة أو المُعاد تدويرها، يعكس تمسكاً حقيقياً بقيم التغيير الجذري الذي ينشده السوريون بعد سنوات من القمع والانقسام وإراقة الدماء، معتبراً أن موقف حمو بشأن رفض "تجميل الاستبداد بأسماء جديدة" هو موقف سياسي مسؤول يتقاطع مع طموحات قطاع واسع من أبناء الشعب السوري.
كما رأى أن تأكيد "قسد" على الانفتاح تجاه الانضمام إلى جيش وطني سوري موحّد، ضمن رؤية ديمقراطية، يبرهن على رغبتها في أن تكون جزءاً من مشروع وطني جامع، لا قوة أمر واق، لكنه في الوقت نفسه عبّر عن تقديره لما وصفه بـ"الوضوح الحاسم" في رفض التبعية لأي مؤسسة لا تمثّل تطلعات السوريين، مؤكداً أن هذا التوازن بين الاستعداد للاندماج ورفض التنازل عن المبادئ هو ما يمنح هذه التصريحات أهميتها.