تعيش المرأة في الشرق الأوسط تحت وطأة بنى اجتماعية وقانونية وسياسية تُقصيها من مركز القرار وتضعها دومًا في موقع التابع، مهما بلغت كفاءتها أو تعليمها أو حضورها الاجتماعي. ورغم تفاوت السياقات بين دول الخليج، ودول النزاع مثل اليمن وسوريا وليبيا والعراق، ودول مثل السودان وتونس ومصر والمغرب، إلا أن المشترك الأكبر هو استمرار التحديات البنيوية التي تواجه النساء، وتكريس الذكورية في المؤسسات والتشريعات والثقافة.
في اليمن، وعلى وقع الحرب التي دخلت عامها العاشر، تعيش النساء أوضاعًا كارثية. لا تقتصر المعاناة على فقدان الأمن أو العنف المباشر، بل تمتد إلى حرمانهن من التعليم والعمل والمشاركة السياسية، بل وحتى من حق الحركة والتنقل في بعض المحافظات تُستغل النساء دعائيًا من قبل الأطراف المتصارعة، وتُغيّب أصواتهن عن مشاورات السلام، رغم دورهن الريادي في العمل الإغاثي والحقوقي خلال غياب الدولة. أما في سوريا، فقد تم استخدام أجساد النساء كسلاح حرب من قبل النظام والفصائل المسلحة، وعانت آلاف النساء من الاعتقال والتعذيب والاغتصاب، دون محاسبة أو عدالة انتقالية. وحتى اليوم، لا تزال المرأة السورية مستبعدة من مسارات الحل السياسي، رغم أن المعاناة الأكبر في الداخل والمخيمات مننصيبها.
وفي ليبيا، أصبحت النساء رهائن لحالة الفوضى والانقسام، تتعرض الناشطات للتصفية أو الإخفاء القسري، كما في حالة سلوى بوقعيقيص، ويُمنعن من ممارسة النشاط السياسي أو المدني بحرية. أما العراق، فرغم انفتاح نسبي تشهده بعض المدن، إلا أن النساء هناك يعانين من العنف الأسري، وجرائم الشرف، والزواج القسري، في ظل ضعف منظومة الحماية القانونية، ووجود تيارات دينية محافظة تفرض سطوتها على المجال العام.
وفي السودان، انطلقت الثورة الشعبية في 2018 من أصوات النساء، وكنّ في مقدمة المواكب والساحات، لكن بمجرد دخول القوى السياسية والعسكرية في شراكات الحكم، تم تهميش المرأة وإقصاؤها من مواقع القرار وحتى بعد انقلاب 2021 وما تلاه من تصعيد دموي، لم تُمنح النساء دورًا فعليًا في التفاوض أو في حماية مكتسبات الثورة. وما زالت المرأة السودانية عرضة للقتل والاغتصاب والانتهاكات في مناطق النزاع، من دارفور إلى الخرطوم، بينما تتراجع القوانين الحامية، ويُعاد إنتاج التمييز في المؤسسات القضائية والتعليمية والإعلاميه.
أما في دول الخليج، فتواجه المرأة منظومة وصاية قد تكون خففّت قانونيًا في السعودية مثلًا، لكنها لا تزال فاعلة فعليًا ومجتمعيًا. صحيح أن المملكة ألغت شرط موافقة الولي للسفر وبعض الإجراءات الإدارية، لكن المرأة ما زالت بحاجة لولي في الزواج، كما أن هناك حالات عديدة تُجبر فيها النساء على الخضوع لأسرهن في قضايا التعليم، والعمل، والإقامة. في الكويت وقطر والبحرين، ورغم اتساع هامش الحريات مقارنةً بجيرانها، إلا أن المرأة لا تزال تواجه تمييزًا في قوانين الجنسية، والطلاق، والتمثيل السياسي. كما أن مجتمعات الخليج عمومًا، باستثناء بعض المبادرات، لم تحقق بعد مفهوم المساواة الجوهرية، بل تركز على نماذج ناعمة للتمكين دون تفكيك جذور الوصاية.
وفي بلدان مثل تونس والمغرب والجزائر، ناضلت النساء لعقود ضد التهميش، وحقّقن مكاسب قانونية مثل المساواة في الطلاق والحضانة، وحق الجنسية، ومناهضة العنف. لكن ما زالت هناك فجوة بين النص القانوني والتطبيق، وما زالت السلطة السياسية تحاول تدجين الحركات النسوية عبر التمويل المشروط أو الإقصاء غير المباشر. في تونس، مثلًا، تراجعت مكتسبات نسوية كثيرة بعد موجة الشعبوية الأخيرة، وفي المغرب ما تزال أصوات نسوية تتعرض للترهيب والتشويه.
وفي بعض الدول العربية ، تنشط النساء في مختلف الميادين، من الإعلام إلى البرلمان، لكنهن في المقابل يتعرضن لقيود قانونية وأمنية قاسية، خصوصًا حين يتعلق الأمر بالحقوق الجنسية والجسدية أو الدفاع عن الحريات. الحملات على "المحتوى المنافي للقيم" استهدفت النساء بشكل خاص، لتكريس الرقابة على أجسادهن، وخياراتهن، وصوتهن الحر.
تُستخدم مفردات "تمكين المرأة" على نطاق واسع في الخطاب الرسمي العربي، لكنها غالبًا ما تأتي في سياق دعائي لا يتجاوز الرمزية. فتعيين وزيرة أو مسؤولة لا يعني أن النساء شريكات فعليًا في صنع القرار ما دام النظام القانوني والمجتمعي لا يعترف بهن كمواطنات مكتملات الحقوق. كما أن حركات النساء تُجابه بمحاولات تدجين أو تشويه، أو تجريد من الراديكالية، خاصة حين تلامس قضايا مثل المساواة في الإرث، أو حرية الجسد، أو الحق في التعبير.
الإشكال الأعمق يكمن في الثقافة الجمعية التي تعيد إنتاج الوصاية الذكورية في كل مكان: في المناهج التعليمية، والمنابر الدينية، والإعلام، وحتى داخل الأسرة. كثير من النساء يتعرضن للعنف داخل بيوتهن، دون أي حماية حقيقية، ويُجبرن على التنازل عن حقوقهن خوفًا من العار أو القطيعة الاجتماعية.
ورغم كل ذلك، لا يمكن إغفال أن النساء العربيات كسرن كثيرًا من الحواجز، وفتحْنَ ثغرات في الجدار الذكوري. من الصحفيات والناشطات، إلى العاملات في الريف والمخيمات، إلى نساء يقاومن الصمت في الفضاء الرقمي، هناك حركة نسوية واسعة تتشكل خارج أطر النخبة، وتعيد بناء الخطاب من الميدان، من الألم، من المعاناة الحقيقية.
ما تحتاجه النساء في المنطقة ليس فقط تعديل القوانين، بل إرادة سياسية تُعيد تعريف العلاقة بين المرأة والدولة، وبين النساء والمجتمع. تحتاج النساء إلى فضاء عام آمن، إلى نظام عدالة منصف، إلى تمثيل سياسي غير شكلي، إلى إعلام يقدّمهن كفاعلات لا كضحايا، إلى تعليم يعيد بناء الوعي لا يكرس القوالب.
في اليمن وسوريا وليبيا والعراق والسودان، تحتاج النساء إلى حماية من الحرب أولًا، ثم مشاركة فعلية في بناء السلام والدستور والانتقال السياسي. في الخليج، لا بد من تفكيك منظومة الوصاية فعليًا لا رمزيًا، والاعتراف بحق النساء في أن يكنّ مواطنات لا تحت رقابة "ولي الأمر". في شمال أفريقيا، هناك حاجة لتثبيت المكتسبات قانونًا وتطبيقًا، والتصدي لمحاولات الردّة والتقييد. وفي عموم الشرق الأوسط، لا يمكن لأي مشروع تحرري أن يُبنى بينما النساء محاصرات بالقوانين، والأعراف، والخطابات السلطوية.
ولن يتحقق أي تغيير حقيقي ما لم تكن المرأة شريكة كاملة في صياغة الحاضر وبناء المستقبل. فالعدالة تظل ناقصة دون مساواة، والتحول الديمقراطي لا يكتمل إذا ظل نصف المجتمع مقيدًا بسلاسل القوانين التمييزية، والأعراف الأبوية، والخطابات الإقصائية. إن استبعاد المرأة ليس مجرد ظلم اجتماعي، بل عائق بنيوي أمام أي نهضة حقيقية. فلا استقرار يُبنى، ولا ديمقراطية تُؤسس، دون تحرير المرأة من هذا الحصار المركب، ومنحها موقعها الطبيعي في قلب القرار والوجود.
من زوايا العالم
أصداء المرأة