بث تجريبي

مثقفون مصريون: أوجلان يحمل مشروعًا فكريًا إنسانيًا كبيرًا

نظّم مركز آتون للدراسات، مساء الأحد، أمسية ثقافية خُصّصت لمناقشة كتاب "ما بعد القومية والحداثة: قراءة في المشروع الفكري لعبدالله أوجلان"، من تأليف الباحث والمحلل السياسي المصري الدكتور طه علي أحمد، المتخصص في شؤون الهوية والقوميات، وذلك بحضور واسع من المثقفين والصحفيين والسياسيين.

قدمت الأمسية الدكتورة سحر حسن أحمد الأكاديمية المصرية المتخصصة في علم التاريخ، فيما ضمت المنصة الرئيسية المشاركة في مناقشة الكتاب إلى جانب المؤلف، كل من: المهندس/ أحمد بهاء الدين شعبان أمين عام الحزب الاشتراكي المصري، والكاتب الصحفي والمحلل السياسي إلهامي المليجي منسق المبادرة العربية لحرية القائد عبدالله أوجلان.

الكتاب والإنتاج الفكري للقائد

وفي بداية تقديمها للندوة، أشادت الدكتورة سحر حسن أحمد بالإنتاج الفلسفي والفكري للقائد عبدالله أوجلان، مستشهدة بقوله إن "السجون دائماً تقيد الأجساد لكن الكلمات تحرر العقول"، قائلة إن الكتاب يطل علينا كنداء فلسفي يعيد تشكيل خريطة الوجود الإنساني والعالم في زمن تنتهي فيها اليقينيات الكبرى وتتهاوى فيه الحضارة الغربية، حيث يأتي فكر أوجلان كشجرة تظلل الإنسانية بفكر منيع ضد عواصف الهيمنة، منوهة إلى أن المشروع الفكري للقائد تجاوز سجنين؛ سجن الأيديولوجية وسجن الجدران.

ولفتت إلى أن الكتاب ليس مجرد تحليل لأفكار أوجلان؛ بل دعوة لإعادة صياغة المستقبل بأدوات لا تكون نسخة من الغرب، عبر مفهوم الأمة الديمقراطية الذي يشكل رؤية تذوب فيها الجغرافيا واللغة في بوتقة التنوع، والذي طرحه القائد بديلاً لمفهوم الدولة القومية، مشيرة إلى أنه هنا يجد الكرد أنفسهم كطارحين لبديل حضاري.

كما أوضحت أن الكتاب يكشف كيف يعيد أوجلان تعريف الأمة، وكيف تحول من العمل المسلح إلى فيلسوف، ورؤيته للحداثة الرأسمالية، منوهة إلى أن الكتاب ليس مرآة تعكس أفكار أوجلان بل نافذة على أزماتنا العربية التي تتطلب حلولاً أكثر عمقاً، ثم بعدها نقلت الكلمة إلى مؤلف الكتاب الدكتور طه علي أحمد.

هذا الكتاب كتبني

واستهل الدكتور طه علي حديثه بتوجيه التحية للحضور، معرباً عن أمننياته أن يكون الكتاب خطوة أو مساهمة في مسيرة بدأت منذ فترة قضاها في التنقل بين فروع المعرفة والدراسات التي يقوم بها، مؤكداً ما يحمله هذا الكتاب من أهمية بالنسبة له، إذ يقول: "هذا الكتاب هو الذي كتبني ولست أنا من كتبته"، معتبراً أن الكتاب ساهم في تشكيل تكوينه هو نفسه كمؤلف، فبفضله قرأ في 15 محور وكل محور يفرض عليه القراءة في كثير من الكتب.

عن الكتاب، يوضح الدكتور طه علي إنه يبدأ فيه بفكرة التأصيل لرؤية ونهج أوجلان، موضحاً أننا بصدد شخص لديه مشروع في فترة نحن في أمس الحاجة فيها إلى أشخاص من ذوي المشروعات، فهي أكثر اتساعا لتفاصيلها من منظور الأشياء، مشدداً على أنه برصد لكل ما كتب أوجلان نجد أنه صاحب مشروع إنساني تجاوز فيه التقليد؛ فهو كردي ويدافع عن حقوق الكرد، لكنه أخضع كل شيء بما في ذلك منهجه للنقد.

ويضيف الدكتور طه أن المنظور الأوجلاني اتسم بالرؤية النقدية العميقة، والعمق هنا مرتبط بعمق تاريخي، فأوجلان في منظوره عاد إلى أوائل التاريخ أي إلى ما قبل 3 أو 4 آلاف سنة، ومن ثم فإن أهم ما يميز هذا المشروع الأوجلاني أنه وضع قدماً في التاريخ وقدماً في الحاضر، وهنا يرصد ويحلل وينقد كل التحولات الإنسانية، أي أننا بصدد مشروع فلسفي يتجاوز حدود القضايا التي نتناولها الآن، مثل قضايا البيئة والمرأة.

الدولة القومية والحرية والأمة

تطرق كذلك الكتاب وفق مؤلفه إلى رؤية القائد للدولة القومية، فيقول إن أوجلان تعامل مع الدولة القومية كمرحلة وليست غاية في حد ذاتها عكس التعامل الحالي مع الدولة القومية والحداثة الرأسمالية، مستعرضاً باختصار فصول وأقسام الكتاب، لا سيما كيفية وصل أوجلان إلى المعرفة، مشيراً إلى أنه توقف عند تعريفه لمفهوم الحرية، كما تم رصد أوجه التوازي والتقاطع في مفهوم الأمة عند عبدالله أوجلان، فمن المعروف أن أي أمة لها مقومات وأهمها اللغة والتاريخ والدين والثقافة، باعتبار أن هذه المقومات تمتزج معا لتشكل هوية أي أمة، لكن أوجلان انطلاقا من الرؤية المتسعة تجاوز هذه المسائل وقال إن أهم مقومات تشكيل الأمة هي الذهنية القائمة على الرغبة في العيش المشترك، أي أن الأمة تتكون في كل من يتوفر لديه الرغبة في العيش المشترك وإن تجاوزت حدود الدين والثقافة واللغة والتاريخ، مشيراً إلى أن هذا ربما ما استلهمته تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في إقليم شمال وشرق سوريا.

رؤية مغايرة للتاريخ وإطار أممي

يقول الدكتور طه علي إن كتابه تطرق إلى رؤية أوجلان للتاريخ، موضحاً أنه وضعه في مقاربة مع أرنولد توينبي باعتبار الثاني أحد المحطات المهمة في دراسة التاريخ الإنساني، وكان يرى أن التاريخ يتشكل وفق استجابة الإنسان للتحديات، لكن أوجلان يرى أن المقاومة للتحديات هي التي تشكل التاريخ، سواء مقاومة المرأة أو مقاومة السلطة أو الطبقة، موضحاً أن المقصود هنا كافة أشكال المقاومة وليست العسكرية فقط.

ويقول الدكتور طه علي إنه في كتابه بصدد فكر يرتقي إلى مسألة أنه فكر فلسفي اجتماعي أو مجتمعي، طوال الوقت لا يقتصر على حالة أو بيئة محددة فهو إطار إنساني ومشروع أممي وله رؤية محددة بشأن المجتمعات وتشكلها، منوهاً إلى أنه بالتالي كان لا بد هنا من دراسة شخصية مثل عبدالرحمن بن خلدون، حيث أوضح أنه هنا وضع الرؤية الأوجلانية في مقاربة مع ابن خلدون، حيث قال إن الطرح الأوجلاني يتجاوز الحلول العشائرية التي توقف عندها المشروع الخلدوني.

المرأة والثورة الذهنية

من بين المحاور الرئيسية في الكتاب رؤية القائد عبدالله أوجلان للمرأة، فيقول الدكتور طه علي إن المرأة كانت أحد الركائز الأساسية في مشروع أوجلان، ولهذا هناك جزء كبير من الكتاب يتناول المرأة في فكر عبدالله أوجلان، حيث رصد المفكر الأممي تطور وضعية المرأة بداية من العصر الأمومي، وقد تجاوز في نظرته أصحاب التيارات النسوية التي دارات في فلك الحداثة الرأسمالية، فأوجلان ينتقد النسوية لأنها لم تخرج من فلسفة الأبوية نفسها.

ويلفت المؤلف إلى أن أوجلان خلص إلى أن تطبيق فكره على المستوى السياسي تقديري، أي أنه يرتبط بما يسميه أوجلان نفسه الثورة الذهنية القائمة على تقبل الآخر، مدللاً بفكرة الأمة الديمقراطية، فيقول إنها وعاء يتجاوز الحدود، هنا الثورة الذهنية في أن يعيش الشخص في إطار يتجاوز عرقه أو لغته أو قوميته مثلاً، مشيراً إلى أن الذهنية هنا تعني القبول المتبادل بين جميع أطراف أي صراع، كما نوه إلى أن مسألة القبول هنا بالعيش المشترك المعيار الذي يجعل مفهوم الأمة الديمقراطية صالحاً لأزمات كثير من المناطق وعلى رأسها الشرق الأوسط.

وعلى هذا الأساس يتحدد إمكانية صلاحية الأمة الديمقراطية لأزمات الشرق الأوسط، أي أن تطبيق الأمة الديمقراطية ممكن إذا اقترن بتغير الذهنية وتجاوز الأطر العشائرية والابتعاد عن اقتصاد السلطة والتشاركية، كما أشار إلى أن أوجلان حين أراد تفكيك الدولة القومية فإنه يقصد تفكيك ذهنية التسلط والمركزية، ولا يقصد حالة الفوضوية أو اللا دولة. كما تطرق كذلك إلى انتقاد تحلف الدين بالسلطة على نحو جعل هناك صعوبات في التعامل مع السلطة باعتبارها قدر، ولهذا فإن تداول السلطة لم يعد جزءاً من ثقافة الشرق الأوسط بصفة عامة، وهذا يشكل تحدياً أمام فكرة تطبيق الأمة الديمقراطية التي تقوم على ذهنية قبول الآخر والعيش المشترك.

الوجه الفلسفي العميق للقائد

انتقلت الكلمة بعد ذلك إلى الكاتب الصحفي والمحلل السياسي إلهامي المليجي منسق المبادرة العربية لحرية القائد عبدالله أوجلان، والذي أكد أنه استمتع كثيراً بما ورد في هذا الكتاب؛ فالمؤلف يكشف لنا الوجه الفلسفي العميق للمفكر عبدالله أوجلان، وعرض مشروعه الفكري القائم في جوهره على مؤلفاته خماسية المانفستو، رغم أنه يتجاوزها في مبادراته العديدة والتي كان آخرها نداء السلام والمجتمع الديمقراطي.

وقال المليجي إن القائد أوجلان متجدد باستمرار، ولا يؤمن بالقوالب الجامدة، فقد بدأ إسلامي، ثم ماركسي، ثم تجاوز كل ذلك، ووصل إلى مشروعه الخاص، لكنه بكل تأكيد استفاد من المشورعات السابقة، موضحاً أن الكتاب يقدم قراءة تحليلية لا تظهر أوجلان كقائد فقط ومؤسس لحزب العمال الكردستاني كحالة متميزة في النضال، لكن الكتاب ينتقل به من حالة القائد إلى المفكر، الذي يقدم مشروعاً فكرياً يمكن القول إنه كونياً وليس معنياً فقط بالقضية الكردية.

ويقول المليجي كذلك إن ما استوقفه في الكتاب وصف أوجلان بمفكر نقدي وليس نقلي وهذا مهم لفهم أوجلان، ما يفسر مبادراته الأخيرة الخاصة بنداء السلام والتنازل عن السلاح، وصولاً إلى تفاعل السلطة مع مبادراته، ولهذا نرى أنه كان أكثر استشرافاً وقراءة للمستقبل، خاصة قناعته أن مرحلة الكفاح المسلح عرفت الناس بالقضية الكردية وأتت ثمارها في ذلك، والآن وقت العمل السلمي والسياسي.

ويلفت المليجي إلى أن أوجلان يظهر من خلال هذا الكتاب أنه يطرح فكره كبديل جذري للدولة القومية، داعياً إلى كيان تشاركي يحترم التنوع، وهنا يرفض اختزال الأمة بتحولها إلى أداة سلطوية، ويطرح الكونفيدرالية كصيغة عملية لتكسير هذه الدولة القومية، لافتاً إلى أن المؤلف أشار إلى إمكانية توطين هذه الأفكار لحل كثير من أزمات الشبرق الأوسط، والإشارة إلى طرح الأمة الديمقراطية كنموذج بديل للدولة القومية، كما أعاد تعريف مفهوم المقاومة، وتناول المرأة، كما تناول الرأسمالية والانتقاد لها كبنية قيمية تكرس استلاب الإنسان.

وفي ختام كلمته، أكد منسق المبادرة العربية لحرية أوجلان أن كتاب الدكتور طه بعيد عن الطرح الدعائي، وتم تقديمه بأسلوب بسيط، ما يجعله أكثر قرباً للقارئ، خاصة وأنه يقدم عرضاً لفلسفة، لكنه عرضها بطريقة تكسر الجمود للقارئ، كما أن الكاتب لم يتوقف عند حدود أفكار أوجلان فقط، بل يفتح أفقاً للبحث عن حلول جذرية للمجتمعات وخاصة الشرق الأوسط عبر رؤى إنسانية جديدة.

تساؤلات عديدة

انتقلت الكلمة بعد ذلك إلى المهندس أحمد بهاء الدين شعبان أمين عام الحزب الاشتراكي المصري، والذي أشاد بكاتب الكتاب وبما قدم من رؤية خلال كتابه، إذ قال إننا دائما نحتاج إلى مثل هذا النوع من المثقفين القادرين على قراءة المستقبل، ودعا إلى قراءة الكتاب ليس كتفسير لفكر أوجلان بل كمنهج تفكير في تفكيك القضايا التي نواجهها في مجتمعاتنا.

ويقول شعبان إن الكتاب وفكر الأمة الديمقراطية يجعلنا نطرح العديد من التساؤلات المهمة، حول تصوره بإمكانية قبول إسرائيل أو الكيان الصهيوني ضمن أمة واحدة معنا في إطار مفهوم الأمة الديمقراطية. كما تطرق إلى بعض المفاهيم التي انتقدها القائد أوجلان، مثل الحداثة الرأسمالية، فيقول إن الحداثة تعني العقلانية والرشادة؛ فالحداثة هي تطور فكري وثقافي واجتماعي وسياسي بدأ في القرن الـ16 واستمر إلى منتصف القرن العشرين، وهي قيم ربما غير مرفوضة، مثل العقلانية والإيمان بالتقدم والعلم والعلمانية والثورة على التقاليد المتخلفة والتصنيع، وهنا يكون هناك تساؤل في ضوء ما يطح أوجلان، هل كل ما في الحداثة مرفوض؟.

ثم يقدم شعبان تساؤلاً آخر، هل يفهم من فكر أوجلان أن القومية على المطلق مرفوضة؟، مشيراً إلى أن ما يجعله يطرح ذلك أن أوجلان قال إن الدولة القومية أداة للهيمنة من قبل قوى الاستعمار، لكن في الواقع نجد أن الماركسية على سبيل المثال قالت إن القومية هي إحدى أدوات الإمبريالية للهيمنة، كما أن القومية العربية في وقت ما ناضلت ضد الاستعمار؛ وبالتالي هنا لا يمكن حسابها على أنها نتائج الرأسمالية، وإنما في واقع الأمر فالقومية العربية ضحية الآن للرأسمالية بما نراه على سبيل المثال في غزة.

ويقول السياسي المصري البارز إنه يطرح مجموعة تساؤلات حول فلسفة القائد أوجلان، مشدداً على أنه بدون جهد ثقافي حقيقي من المثقفين الكرد والعرب والمثقفين بصفة عامة لتحويل أفكار ورؤى أوجلان إلى مخطط قابل للتنفيذ ستظل فلسفته يوتوبيا عظيمة جداً وإنسانية جداً لكنها تبقى مثل كل الأفكار والأحلام الكبرى عصية على التنفيذ. وفي هذا السياق، دعا المهندس أحمد بهاء الدين شعبان أكاديمية عبدالله أوجلان في شمال وشرق سوريا إلى أن تحاول أن تصل إلى تحليل تفصيلي لمشروع يجيب على هذه التساؤلات التي طرحها.

واختتمت الندوة باستقبال مجموعة من التساؤلات من قبل الحضور حول الكتاب، وكان من أبرزهم: الدكتور علي أبوالخير أستاذ التاريخ، والدكتور علي ثابت صبري الأكاديمي المتخصص في علم التاريخ، والسياسي السوري شكري شيخاني، والباحثة الدكتورة ياسمين السبع، والدكتورة فرناز عطية المتخصصة في العلوم السياسية، والباحث والخبير في العلاقات الدولية هاني الجمل.

قد يهمك