بث تجريبي

ترامب يعيد الصراع الأوكراني إلى نقطة الصفر.. تحول استراتيجي أم مخاطرة؟

رغم تعهّدات دونالد ترامب الانتخابية بإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا في "يوم واحد"، إلا أن الواقع يكشف أن المشهد أكثر تعقيدًا مما كان يأمله المتفائلون.

في ظل تغيّر واضح في خطاب واشنطن من التهدئة إلى التهديد، ومن سياسة "السلام السريع" إلى التلويح بالعقوبات وتكثيف الإمداد العسكري، يجد العالم نفسه أمام مشهد استراتيجي جديد يعيد الأزمة الأوكرانية إلى المربع الأول، بل ويحوّلها إلى ساحة اختبار كبرى لما يسميه بعض المراقبين بـ"عقيدة ترامب الجديدة".

فهل دخل الصراع مرحلة تدويل أوسع؟ وهل يمكن أن تتحول المبادرات الأمريكية إلى محفز لانفجار جديد بدلًا من إنهاء الحرب؟

ترامب وزيلينسكي.. اشتباك علني وتضارب استراتيجيات

في مشهد استثنائي وصفه محللون بـ"التاريخي وغير المسبوق"، شهد البيت الأبيض في مارس الماضي مواجهة علنية بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.

المشادة، التي كُسر فيها البروتوكول السياسي المعتاد، كشفت عن شرخ كبير بين توجهات الطرفين: ترامب يسعى إلى تسوية عاجلة تحت مظلة النفوذ الأمريكي، بينما زيلينسكي يُصرّ على ضمانات أمنية طويلة الأمد من واشنطن، قبل الدخول في أي صيغة سلمية.

كان واضحا أن ترامب أراد تسويق ما يعتبره "مبادرة سلام واقعية" تضع حدًا للحرب وتفتح المجال لتفكيك تحالفات الخصوم، خاصة بين موسكو وبكين. إلا أن إصرار زيلينسكي على شروط أمنية، ورفض روسيا حتى لمجرد وقف إطلاق النار دون نزع السلاح الأوكراني، أفشل الجهود.

التحول في الخطاب

وبعد أيام قليلة فقط، تغيّر الخطاب الأمريكي بشكل لافت. ففي مؤتمر صحفي جمعه بالأمين العام الجديد لحلف الناتو مارك روته، أعلن ترامب أن الولايات المتحدة ستزود أوكرانيا بالأسلحة، وأن "أوروبا هي من سيدفع ثمن هذه الأسلحة".

كما هدد روسيا بفرض رسوم جمركية جديدة إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب خلال 50 يومًا، في خطوة بدت مفاجئة حتى لحلفاء واشنطن.

هذا التصريح، الذي تزامن مع لقاء عقده زيلينسكي في كييف مع المبعوث الأميركي كيث كيلوغ، أعاد التأكيد على نية واشنطن تعزيز دفاعات أوكرانيا عبر الإنتاج المشترك وشراء السلاح من أوروبا، وفتح الأبواب أمام صفقات تسليحية جديدة في ظل "عقيدة صناعة الحرب" التي بدأ كثير من المحللين يتداولونها.

عقيدة ترامب الجديدة

في حديثه ، قدّم مدير مركز "جي إس إم" آصف ملحم قراءة معمقة في المشهد. حيث وصف التحول في السياسة الأمريكية بأنه بداية تشكل "عقيدة ترامب الجديدة"، موضحًا أنها ترتكز على مثلث استراتيجي: أمريكا تصنع السلاح، أوروبا تدفع ثمنه، وأوكرانيا تخوض الحرب.

وأشار ملحم خلال مداخلته إلى أن هذه السياسة قد تُدرّس لاحقًا في الأدبيات الأكاديمية باعتبارها مقاربة غير مسبوقة لإدارة النزاعات، تقوم على تقليل التكاليف المباشرة على واشنطن، وتوظيف الصراع لصالح الاقتصاد الأمريكي.

لكنه حذر في الوقت نفسه من مغبة التصعيد غير المحسوب، خاصة في حال تزويد أوكرانيا بصواريخ هجومية طويلة المدى القادرة على ضرب العمق الروسي، بما في ذلك موسكو.

الموقف الروسي

في خضم هذه التفاعلات، كانت موسكو تتابع التحركات الأمريكية بحذر وسخط. وبحسب تسريبات أوردها المستشار السابق لمكتب زيلينسكي، أليكسي أريستوفيتش، فإن الاتصال الأخير بين بوتين وترامب اتسم بـ"لغة قاسية جداً" من الجانب الروسي، تخللتها عبارات وصفت بالمحبطة من قبل ترامب نفسه.

بوتين لم يكتف برفض مقترحات وقف إطلاق النار، بل رفع سقف شروطه، مطالبًا بنزع سلاح أوكرانيا بالكامل، "إزالة النازية" – وفق الخطاب الروسي – والاعتراف بسيادة روسيا على المناطق التي ضمتها. هذه المواقف تشير إلى قطيعة شبه كاملة مع المسار الأمريكي، وتنذر بإطالة أمد الحرب، وربما تدويلها أكثر.

لحظة التحول الخطيرة

التحول الأكثر خطورة في هذا السياق، كما أشار إليه خبراء سكاي نيوز، يتمثل في التهديد الروسي باستخدام السلاح النووي التكتيكي في حال تلقي كييف صواريخ هجومية بعيدة المدى. فروسيا لا ترى في هذه الخطوة مجرد دعم تقني، بل تجاوزًا للخطوط الحمراء و"إعلان حرب غير مباشر".

ويرى المحللون أن اللحظة ستكون فارقة إذا أقدمت واشنطن على تزويد أوكرانيا بأسلحة قادرة على الوصول إلى موسكو. هذا التحول سيخرج الصراع من كونه نزاعًا إقليميًا إلى مواجهة شاملة بين قوى نووية كبرى، مع ما يحمله ذلك من مخاطر عالمية.

العقوبات.. ورقة متآكلة أم سلاح استنزاف؟

من جهة أخرى، عادت الولايات المتحدة إلى التلويح بسلاح العقوبات. وهدد ترامب بفرض رسوم جمركية على روسيا إذا لم تنته الحرب خلال 50 يومًا، لكن هذه التهديدات قوبلت بتشكيك واسع من المراقبين. إذ يرى مدير مركز "جي إس إم" أن العقوبات تحولت إلى ما يشبه "المرض المزمن" بالنسبة لروسيا، التي باتت تتعايش معها.

الأرقام التي يتم تداولها – كرسوم 500% – وُصفت بأنها "اعتباطية"، ولا تحمل جدية فعلية، لا سيما وأن تجارب العقوبات على الصين أظهرت أنها قد تنقلب على الاقتصاد الأمريكي نفسه، كما حدث حين فرضت واشنطن رسومًا على المنتجات الصينية بـ145بالمئة فقط.

تفكيك التحالفات.. أولوية ترامب الخفية؟

في خلفية هذا التصعيد، يرى بعض المحللين أن ترامب يسعى قبل كل شيء إلى تفكيك التحالف الروسي الصيني، وخلق واقع جديد يضمن للولايات المتحدة العودة إلى واجهة النظام العالمي منفردة. لكن محاولته هذه ووجهت بتحفظ من موسكو، التي تشترط فصل الملف الأوكراني عن علاقتها الاستراتيجية مع واشنطن، ورفضت الرضوخ لأي ابتزاز دبلوماسي.

ويبدو أن الكرملين يرى في المبادرات الأمريكية الحالية نوعًا من الاستعراض السياسي لا أكثر، خصوصًا في ظل اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي يرغب ترامب في استثمار ملف أوكرانيا لحصد مكاسبها داخليًا.

نحو أي أفق تمضي الحرب؟

إذا كانت الحرب الروسية الأوكرانية قد تحولت إلى صراع مفتوح منذ 2022، فإن التطورات الأخيرة تعيد التأكيد على أن السلام لا يزال بعيد المنال. وبين تصعيد سياسي واقتصادي من واشنطن، وإصرار روسي على فرض شروطه الكاملة، يبدو أن الحرب تدخل اليوم مرحلة جديدة من المراوحة في ساحة الاشتباك الجيوسياسي، دون بريق سلام قريب.

ومع اقتراب المهلة التي حدّدها ترامب للتوصل إلى اتفاق – خمسون يومًا – فإن العالم يترقب ما إذا كانت هذه المهلة ستنتهي بإطلاق صواريخ هجومية نحو موسكو، أو ببداية مفاوضات جديدة.. أو باندلاع أزمة نووية حقيقية تُعيد رسم العالم من جديد.

قد يهمك