ساعات صباح الأولى من الجمعة 11 تموز 2025 كل حواسنا توقفت عن الحركة، أعيننا فقط كانت تترقب الحدث، وقلوبنا تنبض بسرعتها الألف، نترقب الملائكة وهم يضعون خطواتهم كما العادة نحو السلام.
كُردية أنا، منذ اللحظة الأولى التي داعب فيها النور عيناي رأيت حب الكريلا، كما ملايين الكُرد ومحبيهم نشأت وكبرت بينهم أثناء مجيئهم إلى منزلنا أعوام التسعينات، موجهين من جبال كردستان بتعليمات من حركة الحرية للقيام بأعمال تنظيمية في هذه البقعة الجغرافية، في مدينة كانت مُحاطة بذهنية البعثيين، نشأت على الثقة بقوة الكريلا، على الحقيقة وحُب القائد أوجلان، نحن كبرنا وفي أذهاننا الفكر الحر.
الكريلا.. ليست قوة عسكرية فحسب، ليسوا قوة حملوا السلاح لسنوات طويلة في أعالي جبال كردستان، إنما هم الفكر بحد ذاته، هم آمال شعب تعرض للظلم والاضطهاد، للإنكار، الإبادة، القتل، التهجير والنزوح، الكريلا كانت كتفاً للشعب حينما منعت القوى العالمية عتادها المتطور عنهم، نتذكر قرى باكور كردستان وحرقها، ونتذكر شنكال الأليمة إلى يومنا هذا، حيث كريلا كانت وشنكال بقيت.
جبال كردستان، بأنهارها وأشجارها، بالكهوف، السماء والأرض والهواء، وبأحجار ها حجرةً حجرة مُمتنين لعظمة وجود كريلا بشبابها وبناتها، حتى هم أصبحوا كردستانيين وأصبحوا رفاقاً للكريلا وحموهم من رجس العدو وغدره، كم من المرات احتضنت هذه الجبال رفاقّاً وشهداءً بين أضلعها، حتى حولوا الطبيعة باسمها إلى كافة معالم العالم وتُعرف جبال كردستان اليوم بجبال الكريلا، جبالً لا تنحني، عنيدة مثل من يعيشعون في كنف أحشائها مثل الكريلا.
من ذرى الجبال يروون قصص حب الوطن والدفاع عنه، لا حدود تحجب أبناء الشمس والنار (الكريلا) ولا خوف يكسرهم، على كل ذرة جبال وحجرة حكاية رفيق و رفيقة تكفي لتأليف كتباً عنه، كبروا هناك وكبرت معهم أعدادهم وأعمارهم، كبرت معهم الجبال والمسافات، وكبر دفتر ذكرياتهم في وصف الحياة الحرة، حياتهم بسيطة لا مشتتة، لديهم روح تآلف وجوهر الصداقة، يوم هنا ويوم آخر في بقعة أخرى تصل أقدامهم حيثما يتطلب الأمر وحقائبهم فوق ظهورهم ملتحمة بأكتافهم، سلكوا طريقاً كان ممكن أن يكون المحطة الأخيرة من حياتهم، لكن في كل مرة من زمان كانت هناك بداية جديدة سطروها بقوتهم. كما يقتبس كتاب (آه يا صغيرتي) حقيبة وسلاح وجعبة ووشاح وكسرة خبز وقطع السكر، الرياح والشمس والقمر ودفتر ذكريات وطريق لا نهاية، هم أشبه بلوحة سحرية نابضة بالحياة، يعيشون مع الطبيعة بكل معانيها بروح واحدة، دمجوا القساوة مع القوة والنعومة بين جبالها، وجعلوا من شخصيتهم تسير إلى الحرية والنصر بدون توقف والإصرار آمنين بمبدئ واحد ألا وهو الفلسفة الأوجلانية.
آمنوا بأهدافهم النبيلة ومعتقداتهم السامية بالوقوف في وجه الظلم والطغيان وسلب الحقوق والهوية الكردية في أجزاء كردستان الكبرى في سبيل أن يعيش أبناء الكرد في ظل مجتمعات ديمقراطية، وأعطوا الوعد وأقسموا على درب الشهداء.
حقيقةً، من يرغب في معرفة طعم الحرية عليه استنشاق هواء قمم جبال كردستان، من حياة الكريلا على حواف زاغروس، متينا، أمانوس، زاب، جودي، حفتانيين وآفاشين وغيرها.
مجموعة “السلام والمجتمع الديمقراطي“
خمسون عاماً من الكفاح، من النضال والمقاومة، الحركة كما كل مرة اختارت قيادة السلام، لطالما الملائكة تُعرف برمز السلام والحب، إذا الكريلا هم ملائكة الأرض، ملائكة السلام، اليوم جدّدوا سلامهم، استجابة لنداء من القائد عبد الله أوجلان بوقف الكفاح العسكري والبدء بالكفاح السياسي.
الحقيقة، المشهد رغم ألمه كان من أحد إنجازات وعظمة الحركة، تجلى ذلك بحرق أسلحتهم لا تسليمها، هناك إرادة أقوى من الكريلا، لا أظن أن هناك قوة صلبة وإرادة فولاذية كما قوة الكريلا، فهم ليسوا قوة عسكرية بل هم الإرادة، هم الفكر، وهم الرمز المعنوي لكل من يحاصره الظلم، بادرة صدق النية والثقة هذه تكفي إلى الأبد بإعطاء دروس عنها للعالم كله.
في المشهد هذا التاريخ عاد بنفسه، إلى لحظات استشهاد المناضلة بيريتان الشهيدة العظيمة التي رمت بنفسها من أعالي جبال كردستان وأبت الاستسلام للعدو، كسرت سلاحها معها أيضاً لكي لا تتركه لهم، وقالت “العدو غير لائق بحمل سلاحنا”.
منها نعلم أن سلاح الكريلا ليست مجرد قطعة حديدية يدافعون فيها عن أنفسهم، بل كانت صديقا لهم طيلة خمسين سنة من النضال، صديقاً رافقهم في بردهم وحرهم كانت خلاصهم والشعب من الظلم.
بنقطة التحول من الانتقال من كفاح مسلح لكفاح سياسي فتحت نوافذ جديدة نحو حياة الأكثر حرية.
المشهد اكتمل بقيادة المرأة لهذه المرحلة، بشموخها وقوتها مشت وجبينها مرفوع كقمم جبال كردستان، تشعل النار في سلاحها، لا استسلامًا، بل إعلانًا للسلام في فعلها هذا، تبعث رسالة صامتة مدوية إلى العالم أجمع: لقد خضنا الحرب كي نصنع السلام، وكتبوا التاريخ مرةً أخرى جاعلين من اسم المرأة الكردية منارة للعالم.
جبال كردستان مدرسة الحياة والسلام، جبال كردستان علمت أبجدية السلام والعيش للجميع، سفوح جبالها وقممها وسحرها وهوائها تهب الأمل إلى الأعماق، بهذه الإرادة وقف الشعب ومنذ اعتقال القائد وراء قضيتهم وضد المؤامرات التي أحيكت ضدهم. تعلمنا منهم المقاومة بروح مظلوم دوغان، الإرادة من كمال بير، والفداء من زيلان، والكفاح من عكيد والجرأة من بيريتان.
في النهاية لا يمكن إلا أن نقول نعتمد على فكر القائد وقوة رفقانا، نحن نعتمد عليهم ومعهم حتى النهاية، نحن مع الكريلا مع قواتنا مع جبال كردستان مع قائدنا في سجنه، نحن معهم وهم وجودنا، ثقتنا بهم كبيرة في كل مرحلة يخوضونها، فنحن (الشباب، الشابات، الأمهات والآباء) الكريلا من خلفهم وهم مرآة حياتنا، ننحني إجلالاً لهم لسواعدهم وإخلاصهم، لشجاعتهم وأمانتهم ودفاعهم عنا، ولرؤيتنا مستقبلنا.
وكما قالت بسي هوزات الرئيسة المشتركة لمنظومة المجتمع الكردستاني KCK في تصريحاتها “أظهرنا تضحياتنا والآن الدور على الطرف الأخر”.
وختامها.. للحياة معنى والكـريلا عنوانها.